تعوّل المملكة كثيرا على ثرواتها التعدينية الهائلة لاستكمال مسيرة النهضة الاقتصادية الملحوظة التي تشهدها، من واقع الإمكانات الهائلة التي تمتلكها في هذا القطاع الذي يتزايد اهتمام العالم به، لا سيما في ظل الثورة الصناعية الخامسة. فالمعادن لم تعد مجرد سلع، بل تعدت هذا الدور لتصبح إحدى أبرز المزايا التفضيلية الكبرى التي تدعم الصناعة وتسهم بالتالي في تطور الاقتصاد.

ومنذ إقرار رؤية السعودية 2030 بدأ قطاع التعدين في المملكة يشهد تحولاً إستراتيجياً، فالرؤية ركزت على المعادن بصورة ملحوظة لتصبح الركيزة الاقتصادية الثالثة بعد النفط والغاز وصناعة البتروكيماويات، وذلك لتنويع مصادر الدخل الاقتصادي وتفادي التقلبات الحادة في أسواق النفط.

تبرز أهمية المعادن في قول ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، حفظه الله، (قطاع المعادن في السعودية هو نفط آخر غير مستغل، ومخطط له أن يكون الركيزة الثالثة للصناعات السعودية إلى جانب النفط والغاز والبتروكيماويات، لتسهم في تحقيق مزيد من الرخاء. وتتماشى أهدافها بشكل كبير مع الاستراتيجية التنموية للمملكة المتمثلة في تنويع مصادر الدخل وتوفير فرص العمل وتحقيق التنمية الشاملة).


هذه الرؤية الطموحة سرعان ما تحولت إلى عمل على أرض الواقع، فرغم أن الاهتمام السعودي بالتعدين بدأ بمجرد توحيد الدولة على يد الملك، المغفور له بإذن الله، عبدالعزيز آل سعود، فإن ما شهدته بعد إقرار رؤية 2030 يمثل عهداً جديداً، حيث انطلقت خطوات تطوير القطاع بإطلاق الاستراتيجية الشاملة للتعدين والصناعات المعدنية في عام 2017 كأول إستراتيجية تهدف إلى زيادة إسهام هذا القطاع في الناتج المحلي الإجمالي، وجذب الاستثمارات الوطنية والعالمية من خلال تعظيم الاستفادة والاستخدام الأمثل للثروات المعدنية، والعمل على توليد الوظائف وتنمية القدرات الوطنية البشرية.

كما شهدت السنوات الماضية صدور نظام الاستثمار التعديني الجديد، الذي دخل حيز التنفيذ في 2021، حيث ركز النظام الجديد على تسهيل إجراءات التراخيص، وتعزيز الشفافية، وحماية المجتمعات المحلية. مما ساعد على إيجاد بيئة استثمارية جاذبة وانعكس كل ذلك بصورة إيجابية على زيادة حجم الاستثمارات.

ومن أبرز مزايا النظام الجديد الذي يعد من بين الأكثر تنافسية عالميا لجذب الاستثمارات الأجنبية والمحلية أنه يسمح بتأسيس شركات أجنبية بنسبة 100 %، والاستفادة من فترة إعفاء تصل إلى 5 سنوات للمناجم الجديدة، والحصول على خصم حتى 90 % على عائدات المعادن للبيع المحلي أو تطوير الصناعات التحويلية محلياً، إضافة إلى فرصة الحصول على تمويل يبلغ 75 % من تكاليف رأس المال من خلال صندوق التنمية الصناعية.

خلال الأسبوع المقبل تتأهب الرياض لانعقاد النسخة الرابعة لمؤتمر التعدين الدولي الذي تشارك فيه 85 دولة من كل قارات العالم، و50 منظمة دولية، بحضور 15 ألف شخص و250 من المتحدثين رفيعي المستوى.

ويسعى المؤتمر لتحقيق حزمة من الأهداف التي تشمل تمكين الدول من استثمار ثرواتها المعدنية الهائلة لتحقيق تنمية مستدامة تعزز اقتصادها، والعمل على إرساء الممارسات والالتزامات المسؤولة بشكل فعّال، والبحث عن الحلول وتعزيز الثقة بين جميع الأطراف، وحشد أصحاب المصلحة لمناقشة التحديات وإيجاد الحلول لتوفير المعادن التي يحتاجها العالم، وتحفيز الاستثمارات لتطوير سلاسل القيمة المعدنية.

الأمر اللافت هو أن النتائج المبهرة التي حققها قطاع التعدين السعودي أتت نتيجة للنظام الجديد، وهو ما يثبت الدور الفاعل للجانب التشريعي في تحقيق النهضة الاقتصادية لأن الأنظمة والقوانين هي الضامن الرئيسي لحقوق وواجبات جميع الأطراف، وهي التي تمنح المستثمرين الأجانب الضوء الأخضر للاستفادة من المزايا العديدة التي توفرها لهم المملكة وتشعرهم بالأمان على أموالهم. وهذا يثبت أن النهضة التشريعية المتكاملة التي تشهدها المملكة بالتوجه نحو الحوكمة ومأسسة جميع الأنشطة والمجالات بدأت تؤتي ثمارها.

ولأن قطاع المعادن في المملكة واعد فإن النظام يستهدف زيادة مساهمته في الناتج المحلي الإجمالي من 17 ملياراً إلى 75 مليار دولار بحلول عام 2030، وتوفير أكثر من 200 ألف وظيفة مباشرة وغير مباشرة في نفس التوقيت وجذب 200 مليار دولار من الاستثمارات.

هذه التقديرات تمت بناء على دراسات متعمقة ورؤى صائبة، فخلال السنوات الثلاث الماضية حققت صناعة التعدين بالمملكة أعلى إيرادات لها، حيث بلغت عام 2021 أكثر من 727 مليون ريال سعودي بزيادة قدرها 27% عن العام السابق. كما ارتفع مؤشر الرقم القياسي لكميات الإنتاج الصناعي بنسبة 20.8% في يونيو 2022 مقارنة بنفس الشهر من عام 2021، مدفوعاً بزيادة الإنتاج في نشاط التعدين واستغلال المحاجر بنسبة 19.2%.

ولأن العمل المنظم الذي يستند إلى معطيات حقيقية لا بد أن يحقق النجاح المطلوب، فقد حققت المملكة تصنيف الدولة الأسرع تقدماً عالمياً في تطور البيئة الاستثمارية للأعوام 2018 - 2023، كما جاءت ضمن أفضل 10 دول في السياسات المالية للتعدين، واحتلت المرتبة الثالثة عالمياً في مؤشر بيئة منح الرخص التعدينية.

وعودة إلى مؤتمر التعدين الدولي والأثر الذي سوف يحدثه كمحرك رئيسي للنمو واستقطاب الاستثمارات الأجنبية فإن الفوائد تشمل ترسيخ صورة المملكة كوجهة استثمارية جاذبة ورائدة، والاستفادة من خبرات أكبر المستثمرين الدوليين في قطاع التعدين، وتوقيع عديد من الاتفاقيات التجارية ومذكرات التفاهم، وتعزيز ريادة المملكة التقنية في قطاع التعدين.

وبعد أن أسهمت التشريعات والنظم التعدينية الحديثة في تحقيق نمو ملحوظ في القطاع خلال السنوات الثلاث الماضية، فإن هذا القطاع يتوقع أن يشهد مزيداً من النمو والاستدامة في المستقبل القريب مع استمرار الجهود لتطوير البيئة التشريعية والاستثمارية، وهو ما يجسد توجهات القيادة الرشيدة باستغلال كل الفرصة الاستثمارية المتاحة.