شحبت أرواحهم وكادت أن تجف وتتصدع، بعد أن قلمت الحضارة اخضرار أعمارهم وكسرت أباريق ألفتهم وشاء القدر ذات مساء أن يجمعهم، بعد أن هرمت أجسادهم ولم تهرم أحلامهم، فعادوا كالوعول يركضون بين مراعي طفولتهم وطيوف ذكرياتهم، وأسراب حكاياتهم المطمورة والمعتقة. تفتحوا كالعناقيد واستفاقوا كالعصافير الظامئة، تناسلت الحكايات على ضوء قنديل زيتي بعد أن خذلتهم شركة الكهرباء كعادتها في موسم الصيف، فخرجوا كأعواد الثقاب إلى شرفة تطل على القرية المتعبة والمسكونة بالجفاف وأنقاض التباريح والشجر المتغضن والقطا النائم، فتحوا مصاريع "سواليفهم" الناحلة، وأشار أبو صالح إلى قبر والده تحت فروع طلحة يافعة نبتت على قبره مؤخرا فقال: كان والدي يملك "زرادية" أو كلبة كما يسمونها، وكان يعالج بها سكان الحي حين يأتون إلى دارنا وقد أنهكتهم آلامهم وأوجاع أسنانهم، فيقوم بخلع أضراسهم. كان له صديق حميم ولكنه لا يتردد عن الحضور اليومي إلى دارنا وبالذات وقت الظهيرة حين تعد أمي مائدة الغداء متعذرا بالصدفة والحظ السعيد، ولكنه باغتنا ذات عشية وهو يصرخ من شدة الألم ويطلب من والدي خلع ذلك الضرس البغيض فلم يتردد والدي بل لمحت السعادة على محياه وهو ينهي مهمته من خلال زراديته المدمرة، ولكن صديقه لم يكف عن الصراخ والعواء كالذئب ليقول لوالدي: لقد أخذت الضرس السليم وليس التالف الذي يوجعني فقال والدي بكل تشف وبرود: لقد أخذت الضرس الذي يوجعني كل ظهيرة بدعوى "الصدفة وحزة البسط".. ضحك الحاضرون وترحموا على أمواتهم وتساقطت الحكايات كأمطار السودة، فقد امتدت كحبل السرة وأخذ ظافر الطاعن في السن يستغفر الله من ذلك الفعل الشائن، حين اتفق مع مجموعة من شباب القرية قبل ستين عاما على القيام بمغامرة ثقيلة، فجارهم سعيد يملك بقرة سمينة ويحلم أن يصبح شاعر القرية. ومن فرط الجوع وقلة المحصول ويباس الحقول قررنا أن نوهم سعيدا بالهمهمات والأصوات الليلية من فتحة "الجوبة" وهي ثقب في سقف الحجرة يسمح بدخول الضوء والهواء وخروج الدخان، وبدأنا نتداول الأدوار بعد منتصف الليل وسط شروده وذهوله، ونحن نقول له بأصوات مختلفة بين الفينة والأخرى: يا سعيد هل تريد أن تصبح شاعرا؟ فيرد بلهفة وشغف: نعم فنقول له: اذبح البقرة ولا تأكل منها، وبعد نهاية المسلسل فوجئنا بسعيد في صلاة الفجر يطلب من "الجماعة" ذبح بقرته لكونها مريضة على حد زعمه ويخاف أن تموت نافقة، وقد نزلوا عند رغبته دون أن يدركوا تفسيرا لذلك الحدث التاريخي، وبعدها انتظر سعيد شياطين الشعر فلم تأت بينما حضر شياطين القرية ليفترسوا بقرته بلا رحمة.