في 2023 حصلت محاولة عربية لإعادة تأهيل نظام بشار الأسد، من خلال إعادة سوريا إلى عضوية الجامعة العربية. لم يكن هناك إعجاب أو اقتناع بأهمية النظام أو رئيسه، بل كانت هناك حاجة إستراتيجية لاستعادة سوريا إلى الصف العربي. وفيما كان النظام معتداً ومستقوياً بالحماية التي تؤمنها له روسيا وإيران، فإن الأولى كانت تلح على الدول العربية الأساسية لاحتضان سوريا وقبول نظامها كما هو، لأنه لا بديل عنه، كما أن إيران شجعت أيضاً التوجه العربي، كونه ينطوي على قبول بنفوذها في سوريا. لكن إعادة التأهيل العربية اشترطت تغييراً ملموساً في سلوك النظام في مسائل عدة: وقف تصنيع المخدرات وتهريبها، عدم اللعب بورقة الإرهاب، تسهيل عودة اللاجئين والنازحين، واستجابة مساعي الحل السياسي بواسطة الأمم المتحدة.

وافق الأسد على هذه الشروط مشترطاً بدوره تلقي مساعدات مليارية مسبقة كي يلبيها، أو مطالبة العرب برفع العقوبات الدولية والإقدام على خرقها، وفي النهاية لم يتعاون في أي من الملفات. واقعياً، لم يكن صاحب القرار، ولا راغباً أو قادراً على التنفيذ، ففقد عملياً فرصة إعادة تأهيله. التقطت تركيا هذا الفشل لكنها حاولت مع روسيا منحه فرصة ثانية، إلا أنه رفض المصالحة مع أنقرة، على رغم أن إيران راحت تشجعه عليها بعدما كانت تحثه سراً على التهرب منها. وأخيراً تجمعت جملة ظروف، خلال حربَي غزة ولبنان وما تخللهما من مواجهات مباشرة بين إيران وإسرائيل، واستنتجت أنقرة أن اللحظة الإقليمية (الدولية) حانت لإسقاط نظام الأسد، وكانت الموافقة الأمريكية جاهزة هذه المرة طالما أن إسقاطه يُخرج إيران من سوريا ويُضعف إلى حد كبير النفوذ الروسي فيها إن لم يطحه نهائياً.

على رغم الدور العميق لتركيا في التغيير الذي شهدته سوريا، والإقبال الدولي المتسارع على دمشق لمقاربة القائمين على السلطة فيها وسبر أفكارهم ونياتهم، فإن أنقرة كثفت الرسائل باتجاه العواصم العربية، لا سيما الرياض والقاهرة وأبوظبي، لعدم إطالة انتظارها والركون إلى شكوكها في الخلفية «الإسلاموية» لـ«الحكام الجدد»، وحتى واشنطن أو للحلفاء الغربيين بأن الحذر الواجب إزاء هؤلاء لا يمنع منحهم «فرصة»، خصوصاً في غياب أي خيارات أخرى. والواقع، أن تقدير مدى «الإسلامية العقائدية» وانعكاسها على أداء السلطة الحالية سيبقى لفترة طويلة موضع مراقبة وتساؤلات. لكن الأطراف الخارجية كافة اعتبرت أن ثمة فراغاً في سوريا الجديدة لا يملؤه سوى العرب.


ثم إن إشكالات طرأت ومن شأنها أن تضغط على دمشق وتربكها، فمن جهة هناك تركيا الساعية إلى حسم صراعها مع الكرد مستفيدة من «إنجازها» السوري، ومن جهة أخرى هناك إسرائيل المتوغلة في الأراضي السورية لفرض شروط مبكرة على دمشق. لكن هناك أيضاً أطرافاً خارجية خاسرة من سقوط نظام الأسد وقد يمنحها تأخر «الانتقال السياسي»، بسبب تعقيداته الموضوعية، فرصة إعادة تصنيع مجموعات داخلية (أو تنشيط بعض فروع تنظيم «داعش») بهدف التخريب.

بعد زيارات استطلاعية ومشاورات في اتجاهات عديدة، وبعد زيارة وفد مجلس التعاون الخليجي لدمشق واستقبال وفد وزاري سوري في الرياض، يمكن القول، إن السعودية حسمت خيارها بتبني «سوريا الجديدة»، ولا يقتصر ذلك على التحرك الدبلوماسي والجسر الجوي للمساعدات (الذي رفدته دول عربية أخرى) بل لمست هيئات دولية استعدادات باسم السعودية ومجلس التعاون لمبادرات يجري حالياً درسها، منها مثلاً فكرة «مؤتمر لدعم سوريا» يعقد في دمشق قبل شهر رمضان على مستوى وزراء الخارجية، ومنها أيضاً ترحيب سعودي بخطط طرحتها الأمم المتحدة منذ أعوام لـ«التعافي المبكر» في سوريا من خلال إصلاحات في القطاعات الخدمية كالطاقة والنقل والصحة والتعليم، وكان تعذر تنفيذ هذه الخطط بسبب عقوبات «قانون قيصر» التي جرى تمديدها في 17-12-2024 لخمس سنوات بالتزامن مع بدء واشنطن درس استثناءات كبيرة من هذه العقوبات لإزالة العقبات أمام الدول الراغبة في مساعدة سوريا في هذه المرحلة.

يُفترض ألا تتأخر تلك الاستثناءات الأمريكية لأن الوضع السوري بحاجة إلى جرعات انعاش عاجلة، ومن شأن الإقبال العربي- الخليجي تحديداً- على المساعدة أن يخلق دينامية تتجاوز العقوبات ما لم تتبع إدارة دونالد ترمب سياسة أكثر ارتباطاً بالأجندة الإسرائيلية ومن أكثر صرامة في مسألة «التطبيع». وتعتبر مصادر عربية أن تغيير النظام في سوريا وخروج إيران منها فرصة يجب استثمارها خصوصاً أن «الحكام الجدد» لا يخفون محدودية خبراتهم وحاجتهم إلى رعاية. وفي الأثناء عاد شيء من التناغم العربي مع تركيا، بعد فترة من الشك والحذر، كما أن أنقرة نفسها استنتجت صعوبة تحقيق أهدافها بالقوة في صراعها مع الكرد.

* ينشر بالتزامن مع موقع «النهار العربي»