تعود الناس في الشرق عامة وفي مصر خاصة أن يفهموا من مثل هذا العنوان الذي قدمته أن عناية الكاتب والباحث ستتناول الأشخاص وتقصر ليهم، فلفظ (قادة الفكر)! إذا سمعه القارئ المصري أو الشرقي فهم

منه لأول وهلة طائفة من الأشخاص لهم أثر يختلف قوة وضعفاً في تكوين الحياة الفكرية العامة في جيل من الأجيال أو في بلد من البلاد، ثم اتصل ذهنه بهؤلاء الأشخاص وانتظر من الكاتب أن يقص عليه أطرافاً من حياتهم وما اعترضها من خطوب وما اختلف عليها من محن، وبعبارة موجزة انتظر من الكاتب أن يقص عليه تراجم هؤلاء الأشخاص. وهذا النوع من البحث مألوف شائع في الشرق والغرب، يحبه الناس ويكلفون به منذ كتب الكاتب اليوناني المعروف «فلو تارخوس» كتابه المشهور الذي ترجم فيه لعظماء الرجال من اليونان والرومان والذي كان له في العصر القديم وفي القرون الوسطى وفي أول هذا العصر الحديث أثر لا يكاد يعدله أثر، الذي لا نزال نقرؤه الآن بلذة لا تعدلها لذة وعناية لا تشبهها عناية. هذا النحو من البحث مألوف شائع، ولكني مع ذلك سأعدل عنه وسأكون شديد الاقتصاد في ذكر الحوادث والأخبار.

الآداب والآراء على اختلافها وتباين فنونها ومنازعها ظواهر اجتماعية أكثر منها ظواهر فردية، أي إنها أثر من آثار الجماعة والبيئة أكثر من أن تكون أثرا من آثار الفرد الذي رآها وأذاعها وإذا كان الأمر كذلك فليس من الحق في شيء أن تنسى الجماعة التي هي المؤثر الأول في ظهور الآداب والآراء الفلسفية وتقصر عنايتك على الفرد الذي كان مظهراً لهذه الآداب أو لهذه الآراء، وأحب أن نتفق قبل كل شيء.


فالناس يذهبون في مثل هذا الموضوع مذهبين متباينين أشد التباين، أريد أنا كما أراد غيري من المؤرخين المحدثين أن أتوسط بينهما وأن آخذ من كل منهما خلاصته. فمن الناس من يغلو في إكبار الجماعة والبيئة وإضافة كل شيء إليها واستنباط كل شيء منها حتى ينسى الفرد نسياناً تاماً فإن ذكره قائما يذكره على أنه أداة من الأدوات ومظهر من المظاهر ليس له قوة ولا عمل ولا إرادة. ومنهم من يغلو في إكبار الفرد فيضيف إليه كل شيء ويقصر عليه كل عناية ويفني الجماعة فيه كما يفنيه السابقون في الجماعة، أولئك يمحون الفرد محواً وهؤلاء يمحون الجماعة محواً، أولئك وهؤلاء مخطئون فيما أعتقد. فلست أجهل أن الفرد قوة تختلف عظماً وضآلة ولكنها قوة على كل حال، قوة لها أثرها في تكوين القوة الاجتماعية بل لها أثرها العظيم في تكوين هذه القوة، وأذن فليس من البحث العلمي القيم في شيء أن نعتبر هذا الفرد مهملا كما يقولون، ولست أجهل أن الفرد لم ينشئ نفسه، فإذا وجد فالجماعة متعاونة على تنشيئه وتربية جسمه وعقله وشعوره وعواطفه، وهل التربية المادية والمعنوية إلا قالب يصاغ فيه الفرد على صورة الجماعة التي ينشأ فيها.

1924*

* أديب وناقد مصري ( 1889 - 1973)