تداعت أمامي قراءات تاريخية سابقة عن مدينة دمشق، والطائرة تقترب من الهبوط في مطارها قبل أربعة عقود، وتذكرت عبارة قالها، الشيخ علي الطنطاوي -يرحمه الله، حين غادرها ذات يوم: «هي بيت القصيد في معلقة الوجود»

وفي صالة الوصول تغافلنا عدم منح بعض العاملين حفنة ليرات، الأمر الذي جعلهم يعيدون تفتيش الحقائب، ويُكثرون الأسئلة مع بحلقة العيون، وفجأة تغيرت الأمور، ليسارع أحدهم إلى الاعتذار بعدما علم بمشاركتي والزملاء في دورة المذيعين والمخرجين بالمركز العربي لاتحاد إذاعات الدول العربية، ووعد بمحاسبة المقصرين.

أقلتنا سيارة أجرة من المطار، والشتاء سلب أشجار الحور الرفيعة خضرتها، وتيبست معها أطراف الضواحي، وكأن الأرصفة والمزارع والروابي، والساحات جمعت كفوفها، لعل أعمدة الإنارة الرُمّد تبعث فيها الدفء، فيما غطت آلاف الصور، اللافتات، الدعايات، واجهات الشوارع، شرفات المباني، الجسور، المركز، وجميعها تُشيد بالنصر المبين!، ولم يقطع دهشتنا إلا شكوى السائق، من صقيع الحال والأحوال.


في اليوم الأول، نظمت إدارة المركز الواقع على " أوتوستراد المزة" بجوار جامعة دمشق، حفل تعارف للمتدربين من المحطات الإذاعية والتليفزيونية العربية، وسعدت برفقة زملاء مذيعين من بلادنا الحبيبة «ناصر الفركز، سعد العتيبي، محمد العوين، خالد البيتي»، وأشهد أنهم من النجوم المبدعين، وعلى قدر المسؤلية، وصادف أيضًا تنظيم دورة فنية انضم إليها المخرج الفنان، ضايف الغامدي، بحضور المصور، عبدالله بن مشيط -يرحمه الله -.

ومن حُسن الحظ أن المحاضر الرئيس في الدورة الإعلامي الكبير مؤسس إذاعتي بيروت ودمشق، الأمير يحيى الشهابي -يرحمه الله -.

كما شارك الإعلامي السعودي المذيع الرمز «حسين نجار» بمحاضرات قيمة عن كتابة البرامج وفن الإلقاء.

وتناوب كوكبة من كبار الأدباء والمفكرين والإعلاميين السوريين على شرح الدروس النظرية وتنفيذ التدريبات العملية في القاعات، والإستوديوهات، وفي مقدمتهم صابر فلحوط، نزار عيون السودا، قاسم ياغي، محمد البُجيرمي، محمود خضور، صفوح الأخرس، فؤاد بلاط، وكنت أقرأ في عيونهم عندما نلتقي خارج أوقات العمل حيرة الصمت، تعب الأيام، الخوف من المجهول.

وأشرف مدير العلاقات العامة بالمركز، علي هاشم الشعار، على متابعة المتدربين، وتفقد أحوالهم، وتنظيم زيارات لبعض معالم دمشق وتوزيع المقررات، والجداول، وتقديم الاستشارات، وكان نعم الإداري الناجح، ولازال حتى اليوم يرتبط بعلاقات طيبة مع أغلب الإعلاميين العرب، وخاصة السعوديين.

ولم تنته الدورة، إلا وقد بدت ملامح تغيير مفاهيم كثيرة عن الإعلام المسموع، والمرئي، لتأخذ الأمنيات المتدربين إلى مداها لتطبيق ما نهلوه من معلومات وأساليب جديدة في إعداد وتقديم البرامح، وقراءة نشرات الأخبار.

وللمشي الطويل في مساءات دمشق على كورنيش التجارة، الصالحية، المرجة، باب توما، الحميدية والحارات العتيقة قصص أخرى، فعندما تطوف خيالات المشرقات في وسط الشهر بمخرجنا «أبي ياسر» يتجلى، ويُتحفنا بباقات من عيون الشعر الفصيح والشعبي، ومنها قصيدة الشاعر زهير بن أبي سلمى «صحا القلبُ عن سلمى وقد كاد لا يسلو..». ومن أبرز ما علق في الذاكرة أن المركز، نظم لقاءً مفتوحًا مع الفنان السوري دريد لحام، ودارت أحاديث كثيرة عن الإعلام والفن إلا أن الفنان لم تعجبه أسئلتي عن جحوده، وخلافاته مع الكاتب الأديب محمد الماغوط، ورفيق دربه الفنان نهاد قلعي.

وحين سألته مذيعة عربية عن رأيه في أخبار تؤكد قرب تدشين أول قناة فضائية تملكها شركة سعودية؛ ليجيب أنه ضد الفكرة، وقال بسخرية شديدة: «متى كان المال يصنع إعلامًا وثقافة؟ وأجزم أن مهمتها ستنحصر في نقل مشاكل العرب من الأرض إلى الفضاء ليطلع العالم عليها». وعدت أسأله: كيف تحكم على مشروع إعلامي جديد لا تعلم عنه شيئًا؟، ولماذا عقدة المال تطفح في أغلب آرائكم؟، وبالمناسبة.. هل قرأت ما كتبه ناقد لبناني في مجلة فنية حول عملك المسرحي القادم؟، لقد وصفك كطائر في خريف العمر تغني أغنية الضياع على شجرة الشتاء الجرداء، قال: «يا ألبي» دائمًا الشجرة المثمرة هي التي يهاجمها الحمقى، قلت له: أعتقد فكرة القناة الفضائية شجرة مثمرة أيضًا.. أليس كذلك؟، وتمر الأعوام وإذا به يطل كل أسبوع من تلك القناة بمسلسلات ولقاءات وبرامج متنوعة يختتمها بجملته المشهورة «نلتقي الأسبوع القادم إذا ما صار شي»، وكنت إذا سمعته أردد في نفسي «يا غوار حدثت أشياء وخاب ظنك».