المتعارف عليه في أغلب أنحاء العالم أن لقب «فيلسوف» (philosopher) اسم تقني لحامل شهادة جامعية في تخصص الفلسفة، وكذلك يشمل كل من يكتب في التحليل النظري العميق، بشرط أن تكون كتابة جدلية ومنطقية وليست أدبية أو خطابية. ولا يعتبر لقب الفيلسوف مدحًا أو ثناءً في العالم الغربي والآسيوي وغيرهما من الثقافات المعتادة على النصوص الفلسفية وعلى مهنة الفيلسوف. الإشكالية لدينا أن لقب فيلسوف يعد وصفًا مفارقًا -بعيدًا هناك- في عالم مثالي لا يوجد فيه إلا أرسطو وأفلاطون وابن رشد والغزالي وكانط وهيجل وغيرهم من الفلاسفة الكونيين، الذين كتبوا بتجريد مفارق بلغة كلاسيكية معقدة. وهذا نابع من غياب الفلسفة في الوسط العربي لقرون طويلة أكاديميًا واجتماعيًا، فاعتقد الكثير أن الفلسفة لا يستطيع الكتابة فيها إلا الموسوعي الذي يكتب نصوصًا معقدة بلغة كونية لا تحمل اعتبارًا للاختلافات الثقافية والوجودية بين البشر. ولا ننسى أيضًا أن محاربة «المتشددين» للفلسفة ومقاومة وجودها بين أفراد المجتمع له أثر كبير في عدم تقبل فكرة «الفيلسوف».

في فترة سابقة عرفت عن نفسي بأحد التطبيقات الاجتماعية بصفتي «فيلسوفًا» ولاقيت رفضًا شديدًا حتى من بعض المثقفين. فسألت بعضهم: إذا كنت أحمل شهادة جامعية في الفلسفة فما هو اللقب التقني المناسب؟ قال بعضهم: أستاذ فلسفة، أو باحث فلسفي، أو أخصائي فلسفة. نلاحظ هنا في جميع الاقتراحات توجد الفلسفة لكن الرفض لكلمة «فيلسوف» خصيصًا؛ لما تحمل من مخيّلة مثالية معينة في اللا وعي الجمعي. وعندما قلت لهم إن لقب «فيلسوف» أسهل وأبسط في وصف المجال التقني ومشابه لما هو معتمد في أغلب العالم لمن يحمل شهادة في الفلسفة، ذكر أغلبهم أن لقب «فيلسوف» خصيصًا كلمة كبيرة وثقيلة على النفس، ويستحقها من وصل مستوى عاليًا من التفلسف أو أضاف شيئًا جديدًا لعلم الفلسفة.

المبررات توحي لنا أن المشكلة تكمن في حمولات المصطلح النفسية المتخيلة في اللا وعي، وليس في كلمة «فيلسوف» ذاتها. حيث إن المصطلح يحمل ثناءً وتبجيلًا متضمنًا لا تستحقه إلا فئة نادرة من البشر بمعيار كلاسيكي قديم. وكأن الفيلسوف يجب أن يزهد في الحياة ويختفي عن العالم ويذهب إلى أعلى الجبال بلباسٍ ممزق ويكتب في الفلسفة بتجريد حتى يستحق لقب «فيلسوف». وهذا نابع من الصورة الذهنية المتخيلة عن الفيلسوف بصفته كائنًا لا يشبه البشر العاديين.


علينا أن نجرد لقب «الفيلسوف» من كل الحمولات الكلاسيكية والتبجيل المتخيل تجاه هذا اللقب التقني.

الفيلسوف لقب مثل الرياضي، الفيزيائي، الطبيب، المهندس، الصحفي. الغريب أن هناك من لا يحمل شهادة في الإعلام لكنه مارس الكتابة الصحفية؛ يطلقون عليه لقب «صحفي»، ولا إشكال لديهم في ذلك. بينما كل من يكتب في الفلسفة بأدواتها العلمية والأكاديمية؛ لا يُطلق عليه «فيلسوف»، فما بالك بمن يحمل شهادة معتبرة بالفلسفة. هذه المفارقة تتجلى في قبول البعض للقب «فيلسوف» للكاتب الغربي ورفضهم له عند الكاتب العربي.

ختامًا، الفيلسوف يمارس كتابة نظرية تؤصل لمجالات كثيرة في الحياة، وعدم وجود هذه المهنة النظرية يعيق تقدم العقل العربي علميًا واجتماعيًا وأخلاقيًا. لأن التطور في العلم والحياة والفكر والأخلاق لا يبدأ إلا نظريًا من أجل قراءة المستقبل بشكل منهجي منظم. الاحتياج الأكبر لمجتمعنا -وفي العالم حاليًا- هو الكتابة في فلسفة الأخلاق والتأسيس لفلسفات أخلاقية جديدة تواكب العصر ونقد الفلسفات الأخلاقية القديمة والتقليدية المعطلة للتقدم الحضاري. ومن أعظم من مارس هذا الدور الفيلسوف السعودي «حمزة شحاتة» الذي حفر وتقصّى أصل الأخلاق ثم أعاد تشكيلها جذريًا كما سنوضح في مقالات أخرى.