لا تقف القرارات الحياتية عند الرغبات الشخصية المجردة، بل تمتد إلى ما هو أبعد من ذلك، خصوصًا إذا تقلد الشخص سلطة إدارية تمكّنه من صنع قرارات لتحقيق المصلحة العامة أو مصلحة العمل، إذ لا يمكنه تسيير العمل دون إصدار قرار إداري يعتبر من قبيل إفصاح الجهة عن إرادتها. ومع تلك الصلاحيات إذا خلط مُصدر القرار أو معتمدة بين مفاهيمه الشخصية المجردة أو نزواته الجامحة، وبين صنع القرارات الإدارية ذات الصبغة القانونية السليمة، فإن قراره يصبح مهددًا بالإلغاء كليًا أو جزئيًا.

لذلك توسع العلماء في شرح أحكام القضاء والقانون الإداريين، وخصوصًا في معنى «الانحراف في الغاية من إصدار القرار»، حيث كانوا سدًّا منيعًا في بيان التفسير الاسترشادي لجهة الإدارة والذي من شأنه أن يحد من تطاول الوصوليين أو الانتهازيين أو أصحاب السلطة الإدارية الذين يخالفون ما أوجبه المنظّم في وجوب بناء أركان القرارات والنأي بها عما يثلم صحتها وصوابها.

ومما يسفر عن النوايا السيئة في القرارات المخالفة ما يُعرف في الفقه القانوني بـ«الانحراف بالإجراء». ومثال ذلك أن ينص النظام على حق صريح، فيُفسَّر خلاف ذلك ويُوظَّف النص في غير موضعه وتبنى عليه أعراف إدارية خاطئة وهذا على سبيل المثال وليس الحصر.


ومما لا شك فيه أن الإدارات التي تُعبّر عن إرادتها بالقرارات الإدارية يتطلب منها الدقة الموضوعية والقانونية في صحة الوقائع وسلامة الاستنتاجات، لتُخرج قرارها إلى حيز الوجود الخارجي بشكل صحيح ووفق غاياته المثلى لتسيير المرفق العام بانتظام واطّراد. فالخلل ابتداءً ليس في القرار ذاته، وإنما في من يُوظف مرامي القرار لغاياته الخاصة ويتوارى به خلف نوايا ذات أهداف شخصية محضة، يكون فيها الانحراف وإساءة استعمال السلطة نتيجة خلل في الأركان والعناصر، وهو ما يُعرف بانحراف القرارات الإدارية عن غاياتها النظامية.

وعيب الغاية، وهو أحد عناصر صحة القرار الإداري، حيث يُعتبر من أخطر العناصر التي يصعب كشفها أمام القضاء. فعنصر الغاية في القرارات المخالفة يتفرع إلى ما هو أكثر خطورة، إذ قد يسعى مصدر القرار إلى تحقيق المصلحة العامة ظاهريًا، لكنه يجافي قاعدة تخصيص الأهداف التي تهدف إلى ضبط مسار القرار من الطعن.

وأنا أكتب هذه السطور تذكرت أنه عُرض عليَّ بصفتي محاميًا لغرض الاستشارة قرارًا إداريًا كان يحمل بين أسطره عبارات غريبة ذات صبغة تأديبية ما أنزل الله بها من سلطان ولم ينص عليها ولي الأمر والقاعدة الدستورية المشهورة (لا جريمة ولا عقوبة إلا بنص) حيث نص القرار بعقوبة الموظف: «بخصم من الراتب بسبب: «أنه متعالٍ على الأنظمة والقوانين»، وهو سبب غير مشروع.

وهذا ما أُشير إليه بأن الخلل لا يمكن أن يكون في الأداة وإنما في المؤدى، أي أن القرار يجب أن يكون مشروعًا. ومن المواقف التي جعلتني أرتدي بشت المحاماة اليوم قرار صدر ضدي عندما كنت موظفًا يشبه ما ذكر آنفًا. فقد كنت أعمل في أحد فروع الوزارات قبل تقديم استقالتي والتوجه للعمل المهني، حيث وُجِّه إليَّ إنذار تأديبي بقرار ذكر فيه نصًا: «عليكم التقيد بمواعيد العمل وإلا سيُخصم البدل الوظيفي الذي يُصرف لكم». وانتهى القرار بعبارة «والسلام».

لم يكن القرار بحد ذاته هو ما دفعني لأن أكون محاميًا في بادئ الأمر، بل إن أسلوب القرار جعلني أدرس البكالوريوس للمرة الثالثة في القانون. فقد كانت الأولى في إدارة الأعمال، والثانية في الشريعة، والثالثة في القانون لأبحر في القانون الإداري والقضاء الإداري بشكل واسع.

وهنا أقول للتوضيح: ينبغي أن تكون القرارات الإدارية، خصوصًا التي تمس حقوق المواطنين أو الموظفين، مبنية على وجهين:

1. أركان وعناصر القرار الإداري السليمة.

2. انتهاج روح القانون ومراعاة المصالح والمفاسد.

من جدارة مصدر القرار ألا يمهر القرار بتوقيعه إلا بعد أن يستشير من هو ضليع في القانون الإداري لضمان أن يكون قراره بمنأى عن الطعن أمام المحاكم المختصة، وتحقيق الأمان الوظيفي إذا كان القرار موجهًا ضد موظف. كما يجب أن يُدرك مصدر القرار أن إصدار القرارات المخالفة للنظام قد يعرضه للمساءلة أو المحاكمة أو كليهما معًا.

وقد تضمنت قواعد السلوك الوظيفي وأخلاقيات الوظيفة العامة في ديباجتها قول خادم الحرمين الشريفين حفظه الله: «وقد وجهنا بمراقبة أنظمة الأجهزة الرقابية بما يكفل تعزيز اختصاصها والارتقاء بأدائها ومسؤولياتها، ويسهم ذلك في القضاء على الفساد، ويحفظ المال العام، ويضمن محاسبة المقصرين».

وعليه فإن إنشاء وحدة مراجعة قانونية داخل كل جهة أو مؤسسة إدارية لتدقيق القرارات قبل إصدارها وتعزيز برامج التدريب الإداري والقانوني للمسؤولين والحد من عبثية التفسيرات الشخصية يسهم في الحد من الاجتهادات التي لا تخدم صناعة القرار الإداري بشكله الصحيح.