وما أشبه الإنسان في علاقته بالزمان براكب الدراجة الذي ينظر إلى الأرض فيراها تتحرك تحته بسرعة كأنها تمر به.

جدد أفكارك، إذ خدعوك عندما قالوا إن الزمان هو مجموعة الدقائق والثواني، وإن الخط المستقيم أقصر طريق بين نقطتين.

اعتاد الناس أن يفكروا في مفهوم الزمان على أساس الثواني والدقائق التي تمر بهم، فهو عندهم مجموعة اللحظات العابرة. وقد حار الفلاسفة القدامى في مشكلة الزمان، وذهبوا فيها مذاهب شتى، ولم يصلوا إلى نتيجة مقنعة، أو حل شافٍ، حتى جاء أينشتاين أخيرا، وقال: «ليست المشكلة في الزمان، وإنما المشكلة في عقول الفلاسفة الذين تعودوا أن يعتبروا الزمان مجموعة اللحظات التي تمر بهم، وصار هذا لديهم من البديهات الملزمة، فلم يستطيعوا إذن أن يفهموا كيف بدأ الزمان وكيف ينتهي؟».


ولو دققنا النظر لألفينا مشكلة المكان تشبه مشكلة الزمان، فهذا الفضاء الذي تسبح فيه الأجرام السماوية أين يبدأ؟ وأين ينتهي؟ وهل في الكون حد ينتهي فيه الفضاء حيث لا فضاء بعده؟

وقد اعتاد العقل البشري أن يرى الفضاء محيط بكل شيء، فظن أن الكون يجب أن يكون محاطا بفضاء، والفضاء بفضاء آخر، وهكذا.

يقول أينشتاين: «الفضاء محدب، وهو يلف على نفسه فيصير مثل الكرة»، وهنا تجابهنا مشكلة أخرى، فالفضاء يتكون من ثلاثة أبعاد لا رابع لها، هي الطول والعرض والارتفاع، فإلى أي جهة إذن ينحني الفضاء أو يتحدب؟ ويجيب أينشتاين بأن هذه المشكلة هي من صنع العقول القاصرة، وناتجة من عاداتنا الفكرية، فالكون - في رأيه - يحتوي على أبعاد أربعة، لا ثلاثة، والكون إذن ينحني نحو البُعد الرابع، وهو الزمان.

وهكذا حل أينشتاين مشكلتي الزمان والمكان بضربة واحدة، وأضحى الزمان والمكان - في نظره - شيئا واحدا، وبقى - على معاشر البشر - أن يفهموا ويصدقوا هذه النتيجة التي وصل إليها أينشتاين بمعادلاته الرياضية التي قاس بها تحدب الفضاء، وإلا فإن عليهم أن يعدوا النجوم كما فعل ذلك الذي خرج على الناس ذات يوم زاعما أنه عد النجوم، ثم ذكر رقما عظيما، وصاح في الملأ قائلا: «من لم يصدق ما أقول، فليعد النجوم بنفسه».

مع ذلك حين كسفت الشمس عام 1922 كسوفا كليا، ورصد الفلكيون النجوم بآلاتهم الدقيقة في أستراليا حيث كان الكسوف هناك تاما واضحا، أصابهم الدهش حين وجدوا النجوم الواقعة وراء الشمس تظهر عندهم في الرصد، ومعنى هذا أن الشعاع الصادر من تلك النجوم لا بد قد انحنى حول الشمس، وجاء إليهم.

ولما قاسوا درجة انحناء الشعاع وجدوها مطابقة لدرجة انحناء الفضاء، كما تنبأ به أينشتاين، فالأشعة - إذن - تتقوس في أثناء مرورها بالفضاء، وعلة ذلك أنها تمر في فضاء مقوس، وهكذا جاء أينشتاين بالقنبلة التي نسفت نظرية «نيوتن» التي كانت تقول: «شعاع الضوء يسير في خط مستقيم».

وكلنا كان يعتقد أن الخط المستقيم هو أقصر مسافة بين نقطتين، كما علمتنا هندسة أقيلدس في المدارس الابتدائية. بيد أن أينشتاين قد حطم هذه البديهة الأقليدية، فهو يرى أن الخط المنحني هو أقصر الخطوط، ذلك لأن الفضاء محدب، ومن الضروري إذن أن يكون سير الأجرام فيه مقوسا، وبهذا صار الخط المنحني أقرب وأسهل من الخط المستقيم، إذ هو يجاري طبيعة الفضاء.

وهذا هو السبب الذي جعل الأجرام السماوية كلها تتحرك في أفلاك مقوسة، وليس في الكون كله جرم واحد يجري في خط مستقيم. هذا يناقض ما كان يعتقده نيوتن من أن تقوس أفلاك السماء ناجم عن تأثير فعل الجاذبية، والأشياء حين تسقط على الأرض لا تخضع لجاذبية الأرض، وإنما سقوطها بتأثير ضغط التحدب الفضائي.

وهكذا فتحت نظرية أينشتاين في مفهوم الزمان والمكان، أو مفهوم «الزمكان» - كما يسميه - بابا يصعب على العقول البشرية سده، فالزمان هو بُعد رابع في الفضاء يشبه أبعاد الطول والعرض والارتفاع، وليس مجموعة من الدقائق والثواني.

إنه خط ممتد بين أيدينا أو أعيننا كخط الطول مثلا، ونحن نمر عليه خطوة خطوة، وهو إذن لا يمر بنا كما تمر الدقائق والثواني. وما أشبه الإنسان في علاقته بالزمان براكب الدراجة الذي ينظر إلى الأرض، فيراها تتحرك تحته بسرعة كأنها تمر به، والواقع أنه هو الذي يمر عليها وهي واقفة، فالزمان، بماضيه وحاضره ومستقبله، خط ممتد في الكون، وهو واقف في مكانه لا يأتي ولا يذهب.

ومهما يكن من شيء، فهذه الفرضية كانت في الزمان الماضي غير معقولة، وهي اليوم ممكنة ومعقولة في ضوء الأبحاث الحديثة.

1958*

* ناقد وكاتب سعودي «1920 - 2011»