من حُسن الحظّ أنّني وقفتُ على سيرته وترجمته في طائفةٍ من المقالات له ولغيره من تلك التي نُشرت في مجلّاتِ الجمعيّة الآسيويّة آنذاك، واستعنتُ بها في كتابة هذا المقال عنه. لم يكُن جون وحده مَن كرَّس جهودَه في تعلُّم اللّغات العربيّة والفارسيّة والهنديّة، وفي نقْلِ جملةٍ من الكُتب العلميّة والأدبيّة ما بين تلك اللّغات الشرقيّة والغربيّة، بل هناك طائفة من العُلماء والمُستشرِقين الغربيّين الذين تفرَّغوا لإنجاز تلك المهمّات العلميّة والثقافيّة، برعايةِ مجموعةٍ من المعاهد والكليّات والمدارس التي أُنشئت في دلهي وبومباي وكلكتا ومدراس، وغيرها من المُدن الهنديّة في عصر الاستعمار. إلّا أنّ ما تفرّد به جون عن أقرانه من المُستشرِقين هو إتقانه اللّغة العربيّة وإلمامه بآدابها، واشتغاله بها كتابةً وترجمةً. وهذه ميزة نادرة بين المُستشرِقين الذين اشتغلوا في العلوم العربيّة والإسلاميّة، حتّى بين أولئك الذين عاشوا مدّةً طويلة في البلاد العربيّة، إذ لم يَتّخذوا العربيّةَ لغةً لكتاباتهم على وجه العموم. غير أنّ جون تفرَّد بتعلُّمه العربيّة بعد وصوله إلى الهند، من دون أن تتوفَّر له البيئة العربيّة التي أُتيحت لغيره من أقرانه في عصر الاستعمار. وفي الواقع، عند عقْد المُقارَنة ما بين كفاءته العلميّة والطبيّة باللّغة العربيّة وبين أولئك المُستشرِقين المُعاصرين له في الهند، لا نرى فيهم أذكى خاطرًا، وأحسن فطْنة، وأغْور عِلمًا، وأجْود قريحة، وأظْرف أخلاقًا منه.
ولئن اتَّخذت الحكومةُ البريطانيّة الهنديّة تدابيرَ ووسائلَ عدّة لتعزيز اللّغة الإنجليزية وترويجِها ونشرِها بين السكّان الهنود المحليّين بغية تحقيق نتائج متنوّعة، فإنّها دَأبت أيضاً على تشجيع موظّفيها وعلمائها وأدبائها الأوروبيّين على تعلُّم اللّغات الشرقيّة والهنديّة، بخاصّة اللّغات: العربيّة والفارسيّة والسنسكريتيّة والهندوستانيّة، وأَغدقت عليهم المنح والامتيازات، وذلك لتحقيق مصالحها السياسيّة والثقافيّة والإداريّة. وقد ظلَّ التضلُّع من هذه اللّغات الشرقيّة ضروريّاً للتواصُل والتفاعُل الفعلي مع الخواصّ والعوامِّ على حدٍّ سواء، ثمّ إنَّ تعلُّم اللّغات المَحكيّة وإتقانها لأغراضٍ علميّة ورسميّة عامّة ليس كافيًا. ولا ننسى في هذا المقام أنَّ طبيعة الصلات والتفاعُلات بين الأوروبيّين والهنود كانت تعكس في الغالب علاقةً هَرميّة فَوقيّة؛ ما أَعاق تبادُل الأفكار أو الفَهْم المُشترَك، وعَزَّزَ الكراهية والازدراء المُتبادَل والعزلة أحيانًا. كما قامتِ التحفُّظات والحساسيّة حاجزًا أمام تكوين علاقة حقيقيّة مع العُلماء والأدباء والمتعلّمين المحليّين، إذ يميل الأوروبيّون من ذوي المكانة الرسميّة، وحتّى المثقّفون منهم، إلى تجنُّب مثل هذه الاتّصالات والعلاقات، ويُعزى هذا جزئيًّا إلى نقصِ الثقة في إجراءِ مُناقشاتٍ دقيقة وواسعة مع أولئك العُلماء والأدباء والمفكّرين الهنود. لذا، وُجب الاحتكاك والانسجام مع السكّان المحليّين كأندادٍ من ناحية، والإلمام العميق باللّغات والآداب والثقافات المحليّة من ناحية أخرى.
المقاصد السياسيّة والإداريّة
حينما نُعايِن المَسار العلمي والتعليمي للمُستشرِقين والمسؤولين الإداريّين الأوروبيّين في الهند، نلاحظ أنّهم ما كانوا يستطيعون اكتساب المهارات اللّغويّة والأدبيّة، وتوسيع نطاق الدائرة الثقافيّة واللّغويّة من دون الاستعانة بالعلماء والأدباء المحليّين. ومع ذلك، تَفتقر طائفةٌ منهم إلى الشغف بالدراسات اللّازمة، ويَنقص غيرَهم الإصرارُ والمثابرةُ والمواظَبة، ولم يكُن الوقت يُسعف آخرين لمُتابعة البحث والدراسة. وعليه، تقع مسؤوليّة هذا الانخراط اللّغوي والأدبي والثقافي إلى حدٍّ كبيرٍ على عاتق الأفراد الذين كان يقودهم إمّا حبٌّ شخصيٌّ للمعرفة، أو سعيٌ للتفرُّد. فقد تراوحت دوافع العُلماء الأوروبيّين لانخراطهم في الأدب الشرقي ما بين التسلية والتنوير الشخصي، والرغبة في توسيع المجموعات الأدبيّة الأوروبيّة بإضافاتٍ مُهمّة. وقد سعى علماءٌ وأدباءٌ ومؤرّخون إلى كشْفِ اللّثام عن تاريخ العصور الهنديّة القديمة ودراسة لغاتها وحضاراتها وفلسفاتها ودياناتها، مُستكشِفين جذور اللّغات والمعرفة العلميّة وحتّى الحضارة الإنسانيّة، في حين انصبَّت اهتماماتُ آخرين على فحْصِ التراث والتاريخ والتمدُّن الإسلامي، فضلًا عن معرفة أخلاق تلك الأُمم وعوائدهم وثقافتهم، وغالبًا ما كانت هذه المساعي العلميّة والأدبيّة تتماشى مع تحقيق الأهداف العلميّة البحتة من ناحية، وتحقيق المقاصد السياسيّة والإداريّة وغيرها من ناحيةٍ أخرى.
إسهاماتٍ جليلة
عند النَّظر في سيرة الطبيب والجرّاح جون تيتلر ومشاغله العلميّة والطبيّة، نَجد أنّه اتَّجه لدراسة اللّغات العربيّة والشرقيّة وآدابها رغبةً في اكتساب العِلم والمعرفة في المقام الأوّل، فضلًا عن تعزيز العلوم والآداب الإنجليزية في الهند بواسطة تلك اللّغات، وبخاصّة العربيّة والفارسيّة. كان جون عالِمًا شغوفًا بالأدب الشرقي وصديقًا حقيقيًّا لشعب الهند. وكانت إسهاماته في ميادين الطبّ والتعليم والثقافة عميقة وذات تأثيرٍ بالغ في تلك الفترة. ويَعكس اهتمامه باللّغات الشرقيّة رغبةً حقيقيّة في تعزيز الفهْم المُتبادَل بين الثقافات، ما ساعَد على إثراء التعليم وتطوير المناهج الدراسيّة في الهند. تُجسِّد هذه الجهود روحَ التعاون والتفاعُل الثقافي التي أسهمت في تحسين جودة التعليم وتوسيع آفاق المعرفة في ذلك الوقت.
كان الشغفُ العلمي والفكري للسيّد جون على الأرجح إرثاً عن عائلته، إذا كانت كلتا الجهتَيْن تَنعم بتاريخٍ أدبيٍّ متين. فقد ربطتْ صلةُ قرابة والدَهُ الدكتور ويليام هنري تيتلر باللّورد وودهوسلي المعروف، في حين كانت والدته كريستينا جيلز شقيقة الدكتور روبرت جيلز المورِّخ المشهور في تاريخ الروم واليونان. أمّا والده فقد كان مُلمّاً بالأدب؛ إذ قدَّم إسهاماتٍ جليلة بنقْل ِطائفةٍ من الكُتب الكلاسيكيّة، مثل ترانيم كاليماخوس وملاحم سيليوس إيتاليكوس وغيرها إلى اللّغة الإنكليزيّة. تعلُّم العربيّة واستلهامُ كِتاب «خزانة العِلم»
بالرّغم من مُتطلّبات وظيفته، واصلَ جون دراساتِه الكلاسيكيّة والرياضيّة بحماسة كبيرة، فعلَّم نفسَه اللّغة الألمانيّة وأَتْقنَها، حتّى أنّه عندما توفّي المُراسِل الأجنبي للشركة فجأة، تمكَّن جون من تولّي ذلك الدور. وبعد وفاة والده في العام 1809 وجد جون نفسَه مسؤولًا عن والدته الأرملة وأخته، حيث كانت أوضاعهم الماليّة غير مستقرّة. وكان شقيقه الأكبر، روبرت، قد سافر سابقًا إلى البنغال ليعمل جرّاحًا مساعدًا. تحمَّل جون هذه المسؤوليّةَ بإخلاصٍ كبير، وانتقلت والدتُه وأختُه للعيش معه في لندن؛ ثمّ غادرت أخته لتنضمَّ إلى روبرت في الهند في العام 1812. وفي ذلك الوقت، ونظرًا لقلّة الفرص في المجال التجاري وسط الاضْطرابات السياسيّة في أوروبا، قرَّر جون تغييرَ مساره المهني من التجارة إلى الطبّ. وبَدأ بدراسةِ التشريح والجراحة للتحضير لوظيفة في الخدمة الطبيّة في الهند. وتحت إشراف أطبّاء مشهورين، مثل: السير جيمس إيرل، والسيّد أبرنيثي في مستشفى سانت بارثولوميو، اكتسبَ تيتلر احترامهم بسرعة، وبخاصّة السيّد أبرنيثي. وبالرّغم من الصعوبات الماليّة، تمكَّن من مواصلة دراساته الطبيّة إلى جانب عمله في المكتب التجاري لدعْم نفسه وعائلته. وبعد اجتيازه للامتحان الطبّي، عُيِّن جرّاحًا مساعدًا في العام 1813، وأَبحر إلى كلكتا برفقة والدته. خلال الرحلة، التقى بالعقيد السير هنري وورزلي، الذي أدرك مواهب تيتلر الأكاديميّة وشجَّعه على دراسة اللّغات الشرقيّة، وهو ما ألهمه تكريس جهوده لذلك الهدف.
لدى وصوله إلى كلكتا عُيّن جون في البداية في المستشفى العامّ، وشرعَ في تعلُّم اللّغة العربيّة وظلَّ يكرِّس جهدَه للإلمام بها مدّة أربعة عشر عاماً، وبدأ أيضاً في تعلُّم الطبّ اليوناني/ العربي واشتغل في تحقيق الكُتب الطبيّة المدوَّنة بالعربيّة والفارسيّة، ثمّ انتقلَ لاحقًا إلى المركز الطبّي المدني في مدينة «بتنا» في إقليم بيهار الهنديّ في أوائل العام 1814. وهناك، انخرطَ في دائرة اجتماعيّة وفكريّة نشطة شملتْ عُلماءَ أوروبيّين ومحليّين بارزين.
تعليم مبادئ الطبّ الأوروبيّ في كلكتا
يتبيّن ممّا وَرَدَ في سيرة جون أنّه أراد بنقلِ هذه الكُتب الطبيّة إلى اللّسان العربي أنْ تُقرَّر موادَّ علميّة في مناهج المدارس التي كانت العلوم والرياضيّات تُدرَّس فيها باللّغة العربيّة والفارسيّة. فعلى صعيد العِلم الطبّي في الهند، أَسهم جون في مُعالَجة ضعف التعليم الرسمي بين المُعالِجين المحليّين.
وحقَّق جون كِتابًا طبيًّا آخر بعنوان «الفصول الأبقراطيّة في الأصول الطبيّة»، «من تصانيف الحكيم الحاذق اللّوذعي والطبيب الفائق الألمعي أبقراط الرومي المعروف بالشيخ القوسي في اللّسان اليونانيّة، ترجمها إلى العربيّة أبو زيد عبدالرّحمن حنين بن إسحاق بن حنين، في عهد الخليفة المتوكّل». وقد حقَّقه جون بمُعاوَنة كلٍّ من: المولوي سليمان، والمولوي غلام مخدوم، والمولوي عبد الله، وطُبع في المطبعة التعليميّة في كلكتا في العام 1832. كانت تلك المرحلة نقطة تحوُّل حاسمة في مسيرة جون، حيث كرَّس سنواته المتبقّية في الهند لتعزيز الوصول إلى التعليم وتطوير الفكر. ووافته المنيّة في 5 مارس 1837 في جيرسي بعد حياةٍ حافلة بالعطاء العلمي والفكري. في ضوء ما سبق، يتبيَّن أنَّ عمل جون العلمي فريدٌ في مَساره. ففي البداية كانت أبحاثُه تتماشى مع الاهتمامات العلميّة العامّة، إذ سعى إلى استقصاء إنجازات الثقافتَيْن الإسلاميّة والهنديّة في مجالَيْ الطبّ والرياضيّات للعُلماء الأوروبيّين، ومع مرور الوقت تحوَّل تركيزُه واهتمامُه تحوّلاً كبيرًا. ففي سنواته الأخيرة في البنغال كرَّس جون نفسه لمُهمّةٍ مُختلفة تمامًا، هي ترجمة المعرفة العلميّة والتعليميّة الأوروبيّة إلى اللّغات الشرقيّة المهمّة لفائدة المُجتمع الهندي. كانت هذه المهمّة، كما اعترفَ هو نفسه، شاقّة ومن دون تقديرٍ مادّيٍّ أو معنويٍّ؛ لكنّ شعورَهُ بالواجب، وإيمانَهُ بأنَّ الترجمات المُتاحة أدواتٌ أساسيّة لتقدُّم التعليم المحلّي جعلَ إسهاماتِ جون في التعليم الأنغلو -آسيوي، جديرة بالتقدير. فبالرّغم من التحدّيات التي واجَهها، تَركت جهودُهُ تأثيرًا ملموسًا على المُجتمع الهندي، حيث جعلَ المعرفةَ العلميّة الأوروبيّة مُتاحةً للناطقين باللّغات المحليّة، ما عمَّق فهْم َالسكّان الأصليّين للفكر والمنهجيّات الغربيّة. وإنَّ تدوينَ سيرةٍ ذاتيّةٍ لحياته وإسهاماته يُعمِّق فَهْمَنا له ولِغيره من الشخصيّات التي أَسهمَت في تعزيز الوجود البريطاني في الشرق.
* باحث في تاريخ الهند وجزيرة العرب
* ينشر بالتزامن مع دورية أفق الإلكترونية.