السّؤال مضحك، لكن ماذا نفعل حين تُلحّ الذاتُ أنَّ بينهما تشابهًا؟ بمعنى حين ترى الأول تتذكّر الآخر؛ كقول محمد عبده: «كل شيء فيك يطري به عليّ»، وحكايتي مع هذا التشابه كالتَّالي: تعرفتُ -في زمن بعيد- على زميلٍ يعمل في قسم الأرشيف -أعترف ابتداءً أني تعرفتُّ عليه لأنه يعمل في الأرشيف، وليس مصادفة، فمن أجل عين تكرم مدينة- وكلما أدخل عليه في مكتبه المنزوي بين دواليب لا تَسرّ الناظرين، أتذكّر مصارعةَ الثيران في كتاب (موت في الظهيرة) لهمنغواي. وقد ذكرتُ حالتي النفسية هذه للزميل؛ فضحكَ وقال: لو كان مكتبي مدرسةَ تعليمِ الرقص الشرقي؛ لكان التشابه وجيهًا، فكلاهما حركاته قليلة، ولكنَّ النتائج مبهرة، أما مصارعة الثيران وهذه الأوراق والأكياس والدواليب فأمرك غريب.
مَرَّت الأيام وأنا أحاول أن أطردَ هذه التشابه، لكنَّه يُلِحّ عليّ كما لو أنَّ الأرشيفَ يترجّاني أن أصرخَ بشيءٍ ما، فحتى أنا لم أرتض هذه العلاقة بين حبيبي الأرشيف ورياضةٍ أكرهها، أو أظنُّ أني أكرهها، لم أتمنَّ حينها إلا أن يأتيني (الأرشيف) بهيئةِ إنسانٍ في المنام ليُوحي إليَّ الأمرَ كله.
أتذكّر أني ذهبتُ لمكتبةِ جامعة الملك سعود، لأقرأ في تاريخِ الأرشيف لعلَّه يَنطِق بشكواه ولكن عبثًا أحاول. ثم نسيتُ الموضوع كله، فالزميل تقاعد -إجباريًا- بعد هذه الحادثة بخمس سنوات، وأنا انتقلتُ إلى مقر عمل آخر، حتى جاء يومٌ فتحتُ فيه الكمبيوتر لأنقل مقالتي المخطوطة إلى أروقتِه؛ وعلى غير عادتي تجوّلتُ -عشوائيًا- في ملفاتِ الجهاز القديمة، فإذا بي أجد مقالةً منسيّة كتبتُها عام 2006 وأذكر أني نشرتُها في المنتديات التي لم يبقَ منها إلا أطلال، وأشباح كلمات، كأنَّ هذا الملف تحوّل إلى أرشيفٍ يعلوه الغبار، فعادت حكايةُ الأرشيفِ ومصارعة الثيران إلى الذاكرة بقوة، وتذكّرتُ ذلك الزميل الذي لم أره من سنين، وقفزَت إلى ذهني فكرةُ أنَّ هذا الملف القديم أرشيفٌ يُوثِّق أيامًا عشتُها في المنتديات بهدوئها وصراعها، وجدّها وهزلها، وعلمها وجهلها، وها أنا أتصفّح وثيقةً منه، لكن لمَّا قرأتُها وجدتُ أنها تُمثِّل مستوى وعبارة عام 2006، وليس الآن، فقلتُ حينها: «ربما هذا معنى من معاني شكوى الأرشيف»، أي أنَّ المكتوبَ الذي يَدخل الأرشيفَ لا يُستعاد إلا في حالةِ استحضاره من جديد في طقسٍ حديث يُعبّر عن الخِطاب الآنيّ. لكن ظَلّت العلاقة مع مصارعة الثيران مستعصية، إلا أنّي لم أستسلِم ما دمتُ أمسكتُ بأولِ خيط، فقررتُ أن أعود إلى كتاب موت في الظهيرة؛ لأقرأه من جديد، بحركاته وفواصله وفلتاتِ لسانِ همنغواي المقصودة وغير المقصودة، ولكنَّ المفاجأةَ أني حين فتحتُ الكتابَ سقطت عيني على قولِ همنغواي (بتصرف): «الكاتب ينقل عاطفتَه إلى القارئ بحيلة التَوقيت»، ومن معنى كلامه أنَّ الكاتبَ يستطيع أن يجعل العواطفَ -التي يُحسّ بها وهو يكتب الكتاب- حيّة في نفس القارئ مهما بَعُد زمنه، عن طريق الاحتيال بأنَّ وقتَك -أيها القارئ- هو وقت الكاتب. شَعرتُ أنَّ هذا القولَ الهمنغوائي متّصل بفكرةِ الأرشيف؛ والرابط بينهما هو عنصر التوقيت الذي يَجعل من المتلقّي يَستحضِر الحالةَ التي كانَ عليها الكاتبُ مهما بَعُدَ الزمن، أليس الأرشيفُ يَربطنا -نفسيًا- بأيّ معنى قديم؟ واستحضرتُ -حينها- سؤالًا لم يخطر في ذهني أيام جلوسي مع الزميل في قسم الأرشيف وهو: لماذا تحديدًا أتذكَّر العلاقةَ بين الأرشيفِ والمصارعة عن طريق كتاب همنغواي، إذ الكتب التي تتحدث عن مصارعة الثيران كثيرة؟ هذا السؤال كان بوابةً لمعرفةِ الشيء الغامض الذي يجعلني أغنّي: «يا شبيه صويحبي حسبي عليك»، وهو أنَّ اللّذين يتصارعان في الحلبة هما (الحيلة) الإنسانيّة و(القوة) الحيوانية، وهذا يُشبِه ما كنتُ أتحاور فيه مع زميلِ الأرشيف، إذ أذكر أني سألتُه: «أليست هذه الملفات التي تُحيط بنا حيلة يتقوى بها صاحبُها أمام الآخرين»؟ أنا -اليوم- أقول بلى؛ فرمزية الأرشيف ومصارعة الثيران مشتركة، كلاهما حيلة إنسانية لصناعة القوة.
سعدتُ بالنتيجة، وتمنّيتُ أن أتّصِل بالزميل القديم، لأحدثه عن نتائج الشبه الغريب، فتواصلتُ مع زملاء عدة لطلب رقم هاتفه، حتى هُديتُ إلى خبرٍ جعلني أتنفّس من خرم إبرة، وهو أنَّ ذلك الزميل ميّتٌ منذ ثلاث سنوات. تساءلت هل الأحداث تتوالى بالتشابه أم أنَّ ذهني مشتعل بلا فائدة، فها هو الزميل أيضًا يُوضَع في الأرشيف، ولن يُستعاد إلا بحلةٍ تُناسِب وقتَ استحضاره؟
التفاتة:
مصارعة الثيران منهجيةٌ تشرح مَغزى أفعالنا، وتُفسِّر لماذا نحن مختلفون ومع ذلك نتصارع على الحق بالقوة. وهذا زميل الأرشيف عاش حياته الطويلة الكئيبة يُدخِل وثائق ويُخرِج أخرى، كأنه مصارع ثيران مع القماش الأحمر، حين يُجَزِّئ حركاته، ويُقَطِّع هجومَه ليُشَتِّت الثور. وبقدر المسافة بين المصارع والثور يكون وضوح الأرشيف، ووضوحنا.