في لقاء العقبة، بعد أسبوع على سقوط النظام الأسدي، وضعت الدول العربية والغربية معاييرها للتعامل مع الحكام الجدد والنظام المتوقع انبثاقه من المرحلة الانتقالية، من دون التطرق إلى الهوية السياسية (الإسلامية) للفصائل التي أطاحت النظام السابق وما تثيره من هواجس لدى دول قريبة وبعيدة على السواء. كذلك جرى تجنب الإشارة إلى مدى نفوذ تركيا ونوعه على تلك الفصائل، أو إلى التأثير الأمريكي- الإسرائيلي على فصائل أخرى فتحت الطريق أمام الانتهاك الإسرائيلي (بدعم أمريكي) للأراضي السورية.

فوارق قليلة بين بيانَي وزارة الخارجية الأمريكية و«لجنة الاتصال الوزارية العربية بشأن سوريا» بعد لقاء العقبة، لكنهما التقيا عند اعتبار المرحلة الانتقالية «اختباراً حاسماً» للمبادئ التي اتفق عليها المشاركون لسوريا المقبلة وشددوا على أهمية التزامها لأنها ستكون أساسية في تحديد نهجهم للمضي قدماً (البيان الأمريكي). ومن ثَم فإن التعامل مع الواقع الجديد في سوريا سيرتكز إلى «مدى انسجامه مع المبادئ والمرتكزات التي تضمن تلبية حقوق الشعب السوري وتطلعاته» (البيان العربي). أي إن مساعدة سوريا ستكون مشروطة، وأن خطواتها المقبلة ستكون تحت المجهر.

معلوم أن اللجنة الوزارية العربية هي التي مهدت عام 2023 لإعادة سوريا إلى الجامعة العربية، على قاعدة أن نظام بشار الأسد باقٍ ويمثل الدولة، لكنها حددت للنظام جملة التزامات كي تتأكد من إمكان إعادة تأهيله وتتمكن من الدعوة إلى رفع العقوبات عنه. وإذ بدت عودة نظام الأسد إلى الجامعة ممكنة بدفع روسي وعدم ممانعة أمريكية، فإن عودته إلى عروبته والوفاء بالتزاماته بَدوَا صعبَين بسبب الفرملة والموانع الإيرانية.


طلبت اللجنة العربية من الأسد آنذاك تعاوناً في مكافحة تهريب الكبتاجون لكنه أخفق في ذلك وعرض تعويضه بمليارات الدولارات لأن تصنيع المخدرات وتهريبها كانا وسيلته مع الإيرانيين للالتفاف على العقوبات. وطلبت اللجنة إجراءات مثل إطلاق المعتقلين وتخفيف القيود الأمنية لتشجيع عودة اللاجئين والنازحين فقاومها بأعذار شتى. وطلبت أيضاً أن يُقدِم على مبادرات تحرك الحل السياسي ولم يستجب. وفي الأثناء كان القريبون من النظام يقولون إنه «انتصر» في حربه ويجب أن يُقبل كما هو، وإن تخليه عن إيران، كما يأمل العرب والغرب، ضرب من المستحيل.

ما إن سقط النظام ورحل الأسد حتى تهاوت المستحيلات جميعاً. خلال ساعات وأيام قليلة فُتحت السجون تباعاً وانكشفت مصانع المخدرات وأُخليت السجون، فيما تدفق السوريون إلى بلادهم من كل الأنحاء. حصل أيضاً ما لم يكن مُتخيلاً، إذ لم يبقَ أثر لعشرات الآلاف من الإيرانيين وأتباعهم، وانكفأ الروس إلى قاعدتهم، فيما بدت ثكن قوات النظام خاوية. تحقق في وقت قياسي الكثير مما كان السوريون، وكذلك المجتمع الدولي، يطالبون به لئلا تبقى سوريا تحت العقوبات، ولئلا يكون النظام مع حُماته مصدر تهديد لأبنائها وجيرانها وللعالم.

قبل لقاء العقبة وبعده بث أحمد الشرع رسائله إلى الداخل والخارج، وفي الاتصالات الحكومية التي أجريت معه كما في المقابلات الإعلامية كان الجميع يبحث عن خلفيته الإسلاموية التي يفترضون أنها تُضمر مشروعاً سلطوياً يتمسكن حتى يتمكن، لكنهم فوجئوا بمدى استعداده وجاهزيته وبأنه «لا يُخطئ» في المسائل الأساسية: فهو كإسلامي من النمط المشتبه به لم يبدِ أي حساسية تجاه الأديان والمذاهب الأخرى، وكإسلامي- عسكري كان عدم الثأر أول ما دعا إليه، ثم إن دعوته الشعب السوري إلى توحيد صفوفه، ومطالبته المجتمع الدولي بمساعدة سوريا على تخطي مصاعبها الاقتصادية، لم تعبرا عن أجندة عقائدية خفية بل عن أولويات وطنية.

دعا العرب إلى أن تكون سوريا «دولة عربية موحدة، مستقلة، مستقرة آمنة لكل مواطنيها، لا مكان فيها للإرهاب والتطرف، ولا خرق لسيادتها أو اعتداء على وحدة أراضيها من أي جهة كانت»، كما دعوا مع الدول الغربية إلى «عملية انتقالية سلمية سياسية سورية- سورية جامعة، تتمثل فيها كل القوى السياسية والاجتماعية، بما فيها المرأة والشباب والمجتمع المدني بعدالة، وفقاً لمبادئ القرار 2254 وأهدافه وآلياته، بما في ذلك تشكيل هيئة حكم انتقالية جامعة بتوافق سوري، والبدء بتنفيذ خطوات الانتقال من المرحلة الانتقالية إلى نظام سياسي جديد يلبي طموحات الشعب السوري بكل مكوناته، عبر انتخابات حرة ونزيهة، واستناداً إلى دستور جديد يقره السوريون»... خلافاً للأسد الذي عومل كرئيس دولة وأحبط كل ما دُعي إليه لتصحيح أوضاع بلاده، بدا خطاب الشرع مطابقاً ومستبقاً أحياناً كل ما يُطالَب به محاذراً تجاوز «المؤتمر الوطني» الذي دعا إليه أو المرحلة الانتقالية أو الدستور المقبل. لكنه سيبقى لفترة طويلة «تحت الاختبار» من جانب العرب والغربيين، والأكيد أنه يتفهم ذلك ولا يضيره بعدما أنجز المهمة الكبرى بإسقاط النظام الأسدي.

* ينشر بالتزامن مع موقع «النهار العربي»