.. وفي الحقيقة نحن دائماً على سَفَر، فالحياة سَفَر، حركة. ولعلّ الدراويش المولويّة قدّموا أحسنَ تعبيرٍ رمزيّ عن هذا الحال في الكون؛ ففي رقصهم الدائريّ يُعيدون، وبشكلٍ رمزيّ، سيرةَ الكَون والحياة والوجود في حركته الدّوريّة الدّائبة؛ ورقصهم هو تعبيرٌ صوفيّ رمزيّ عن التحوُّل الأبديّ، لأنّ نهاية الدائرة هي بدايتها، فالدوران أبديّ وتعبيرٌ في الآن عن انتقال الحياة، والعالَم، وفي كلّ لحظة، من شأنٍ إلى شأن.

دَورانُهم هو دوران النجوم والأفلاك والأيّام والفصول، دوران الزّمن، وارتبطت السياحةُ بالمتصوّفة، ففي السَّفرِ الأرضيّ شيءٌ من البحث عن المُطلَق وكأنّه استعادةٌ رمزيّة لذاك السفر الأبديّ داخل الذّات نحو مُطلَقٍ يظلّ مُتعالياً باستمرار. وهذا السفر هو تجربةُ ومُعاناةُ اكتشافِ الذّات لذاتِها العميقة؛ وهو مقامُ الوصْلِ لدى الصوفيّة الذي يُدرِك ولا يُدرَك كما قال أحدُ المتصوّفة:

فارقته زمناً ولمّا التقينا كان تسليمه عليّ وداعاً.


العود إلى الجوهري

والسَّفرُ كما يبدو لي ليس التنقُّلَ الفيزيقيّ من مكانٍ إلى آخر فحسب، فهذا أحد مظاهره؛ إذ هناك مَن يَنتقل من بلادٍ إلى أخرى ويَظلّ في موضِعِه لا يغادره. وهذا شأن الأغلب الأعمّ من الناس، يحمل قريتَهُ حيثما يذهب ولسان حاله يقول حيثما أكون يكون معي وطني. ولعلَّ أوضح مثالٍ على ذلك هو مثال معمّر القذّافي وخيمته الأسطوريّة التي ظلّ يحملها معه في عواصم العالَم كشاهدةٍ على أنّ الرجلَ لم يُسافر مطلقاً، وهذا أشنع أنواع السفر، حيث يتنقّل ويشقى الإنسان بلا إفادة، إذ يظلّ في مكانه.

السفر إذن حركةٌ واحدة في الداخل والخارج. السفر هو اكتشافٌ للعالَم عبر الأنا واكتشافٌ لتلك الجوانب المجهولة من الأنا التي لا تتجلّى وتتكشّف إلّا عِبر العالَمِ، والتنقُّلِ في العالَم. إذن فنحن إذ نسافر في الجغرافيّات، إنّما نسافر في الآن نفسه في الداخل؛ وأغلب الظنّ أنّ فالعالَم الخارجيّ ليس سوى احتمالٍ من احتمالات النظرة الداخليّة له.

ثمّة تبادُلٌ بين الداخل والخارج. ونحن أيضاً، وبقدر ثراء استعدادنا الداخليّ، نكتشف ثراءَ العالَم الخارجي.

هكذا نسافر، وفي السفر إذ نكتشف أبجديّة العالَم، إنّما نَكتشفُ وفي الآن، جوانبَ من أنفسِنا ظلّت إلى الآن مَخفيّةً عنّا في دياجير الذّات؛ جوانب ظلَّت بالنسبة إلينا مجهولة. لعلّ العالَم في هذه الحال شبيه في وجوده بالنصّ الأدبيّ، فالكتابة هي أيضاً إبداعٌ مزدوج؛ لأنّه، وفي أثناء مُمارَسة الكتابة، وعبرها، نُعيد صَوْغَ أنفسنا أو ما يُسمّى recréation du soi La.

كذلك العلاقة الحُبيّة، حيث وفي تجربة الحبّ واللّقاء مع الآخر، نَكتشف أشياءً غائرة في تلك المناطق المعتمة من عالَمِنا الداخلي، نُعيد اكتشافَ ذواتنا من جديد، اكتشاف أبعاد أخرى للأنا كانت، وإلى حدّ تلك اللّحظة، مجهولةً لدينا، لأنّها كانت في طوايا عقلنا السرّي... أوَلَيست مُفارقة عجيبة تلك المُتمثّلة في التالي: للغَوْصِ عميقاً في الداخل لا بدّ من حضور ذاك الكائن السحريّ الخارجيّ الآخر المعشوق أو النصّ الأدبيّ أو القطعة الموسيقيّة لنتمكّن من خلاله من الوصول إلى أقاصي الذّات واكتشاف ثراءٍ كان غافياً هناك في زاوية معتمة من عقلنا السرّي... كذلك هو العالَم مكان خارجي بعيد وناءٍ يُضيء لنا أكثر الأشياء حميميّة في دواخلنا... وأهل التيبت على صواب، إذ يقولون في أمثالهم «السفر هو العود إلى الجوهري»..

أيضاً، لهذا السبب توصَف الأسفار بالمُغامرات، وكذلك العلاقات العاطفيّة توصَف هي أيضاً بالمُغامرات؛ وذلك لاحتوائهما على عناصر مُشترَكة: التحوّل والجديد والمجهول المُمتع والمُخيف.

الذهاب إلى الآخر

أَذكرُ مَوقفاً سينمائيّاً كالتالي:

قال الشابُ الألماني للمرأة الولهى بحبّه، والتي كانت تريده أن يرتبط بها برباط الزواج الأبديّ. وكان فتىً وسيماً غضّاً في ميعة الصّبا وشرخ الشباب، كما تقول العرب.

قال مُعتذراً:

أريد، وقَبل أن أختاركِ زوجةً لي، أن ألفّ بالعالَم لأتعرّف إلى نفسي.

أي أنّنا لا بدّ من أن نذهب إلى العالَم، أن نوغل بعيداً لنلتقي بما هو أقرب إلينا من حبل الوريد كما تقول العرب. أيضاً وأيضاً؛ ليتمّ ذاك اللّقاء الحقيقي بذاتِنا الحقيقيّة، بذاك الجانب الغائر العميق من أنفسنا، والذي طبعاً لا يتكشّف تكشّفاً مُطلقاً.

أَدرك الشاب أنّ عليه أن يلفّ الأرض ليكتشفَ ذاته عبر اكتشاف العالَم، وحينئذ سوف يَعرف أين موضعها في العالَم.

قال غوته وفي مجالٍ شبيهٍ ومُواز: مَن لا يَعرف سوى لغته، لا يَعرف لغتَه.

ومن المُمكن القول إنّ مَن لا يَعرف سوى أناه/ ثقافته، لا يعرف أناه/ ثقافته.

وكذلك الأمر بالنسبة إلى الثقافات الأجنبيّة. في لقائك بالثقافات الأخرى تتكشّف لكَ جوانب من ثقافتك، تراها في ضوءٍ جديد، تَكتشف أنّ البشريّةَ واحدة، مفردة في تعدّدها وثرائها... مرّة أخرى لا بدّ من الذهاب إلى الآخر لنكتشف ذاك الجانب من ذواتنا الذي ظلّ مجهولاً إلى الآن... لنكتشف جانبنا الكلّي الكونيّ notre côté universel ونتخلّص بالتالي من الزوائد والشوائب الأنانيّة المَرَضيّة.

بيد أنّ السفرَ المُرادِفَ للمغامرة والاكتشاف والانبهار بالأشياء الجديدة، بدأ يختفي من حياتنا، وذلك من جرّاء ظاهرة العوْلَمة، حيث صارتِ المُدن الحديثة نسخاً متشابهة متكرّرة. فأنتَ إذ تدخل غرفةَ أحد الفنادق وتُغلِق الباب من ورائك، تَجِدُ نفسَكَ في مكانٍ تجريديّ، في حيّزٍ بلا هويّة مُحدَّدة. فأثاث غرف الفنادق هو واحد مُتشابه عبر العالَم، لأنّ الشركات العالميّة المُزوِّدة واحدة... وللحظةٍ لا تدري هل أنتَ داخل فندق في طوكيو، أم في جزيرة جربة التونسيّة، أم في مكسيكو؟! وتذهب لواحدةٍ من المُدن الحديثة بناطحاتِ سحابها وتَقف في نافذةٍ ما تتفرّج على المشهد، فلا تدري هل أنتَ في مانهاتن أم في حيّ الديفانس في باريس أم في أحد أحياء هونغ كنغ أم في الخليج العربيّ أم في طوكيو... فالعمارة الحديثة هي أيضاً سطَّحت العالَم؛ هي عمارةٌ واحدةٌ في القارّات الخمس، كما هو الأمر على صعيد الملابس والمطاعم والكمبيوترات، وعناوين الإنترنت، فهي كلّها مُتماثِلة. مخاوف مارغريت يور سينار قَبل أربعين سنة من أن يصير العالَم متجانساً صارت واقعاً الآن.

إذن، إلى أين تمضي أيّها الرحّالة؟! الأماكن البعيدة لم تَعُد بعيدة. اختفى سحرُ المسافات. يكفي ساعات لتلفّ نصفَ العالَم، والأماكن القَصيّة النّائية صار لها لون وطعْم مكانِكَ الحميمي. فمِن أين سيأتيكَ ذاك التكشُّف الذّاتي وذاك الانبهار الذي هو نِتاج حسّ الغرابة والإكزوتيك؟!! الانبهار الذي هو في أساس كلّ إبداع فكريّ وفنّي...

كان جان جاك روسّو يُفضّل في السفر الترجُّل والمشي. وكَم من مرّةٍ زار باريس قادماً من جنيف سَيراً على الأقدام؟!! كان يعتقد أنّ سرعة العربات التي تجرّها الخيول تزيل نعمة التأمّل في العالَم واستبطان الأشجار والسهول والينابيع والأنهار والجسور وبيوت الفلّاحين والكنائس الصغيرة والفنادق الريفيّة والأديرة المُتنائية في البريّة. وكثيراً ما كان يَعبُرُ راجِلاً الريفَ السويسري والفرنسي، ثمّ يَدخل باريس عبر ذاك الدرب الأخضر الذي، وبفعْل التطوّر العمراني وتمدُّد المدينة، صارَ اليوم شارعاً طويلاً يشقّ الدّائرة الحادية عشرة الباريسيّة، وقد أَطلقت عليه بلديّةُ باريس اسم Rue du Chemin vert شارع الدرب الأخضر، والذي ينتهي اليوم في ساحة الأوبرا الحديثة. وكتبَ روسّو في أثناء تلك السياحات «Les Rêveries du promeneur solitaire أحلام أو تأمّلات المتجوِّل المتوحِّد».

عجزَ الفردُ عن التأقْلُمِ

اليوم، ماذا نقول عن السفر بالطائرات؟! حيث لا يرى الإنسانُ شيئاً سوى سماء زرقاء يتطلّع إليها كما لو كان يراها من نافذة بَيته... الطائرات التي كان هنري ميلر يرفض ركوبها. يقول في روايته «عملاق ماروسي» لم يُخلق الإنسانُ ليتنقّلَ عبر الأجواء، خُلق البشريّ ليسيرَ فوق الأرض، وعلى سطح البحر، على أقصى حدّ.

والمُفارَقة أنّ الإنسانيّة بدأت السياحة المكثّفة في شكلٍ متوازٍ مع هذه الحداثة التي قضتْ على السّفر ومُتَع السياحة، وذلك لانتفاء حسّ الغرابة والإيكزوتيك الذي هو معنى، بل جوهر السياحة عَيْنها. الحداثة التي جاءت بالعوْلَمة قضت على مُتَع السفر؛ صارَ العالَمُ مكاناً واحداً مُتجانساً، وهذا كلّ ما كانت تخشاه وتتوقّعه مارغريت يورسنار قَبل أربعين سنة من دخول الثقافات والمُجتمعات في قالبٍ مُتجانس. اليوم عمَّ التجانُسُ بسرعة لم تكُن تتوقّعها يور سينار... فالتاريخ صارَ مُتسارِع الحركة.

كانتِ الناسُ في العالَم القديم تُسافِر للمتاجَرة؛ أو لطَلَبِ العِلم أو للسفارة بين الدّول أو لأسبابٍ دينيّة، للقيام بالمَناسِك والسفر هَرَباً من مجتمعٍ عجزَ الفردُ عن التأقْلُمِ معه فهَجَرَهُ إلى بلادٍ نائية؛ أو هَجَرَ الشعراءُ والكتّاب الغاضبون بلاداً لم تَعُد تتّسع لأحلامهم ولجنونهم كما فعل رامبو، وهولدرلين، وفان خوخ، وبول غوغان... أو هجرة، بل قلْ فرارَ كتّاب وفنّاني الأنظمة الشموليّة الحديثة التي، تُحدِث جروحاً صعبة الالتئام؛ وكأنّي بالشاعر العربي القديم قد أَدرك هذا الأذى فأَنشد ابن الأهتم:

لَعَمْرُكَ ما ضاقَتْ بِلاَدٌ بأَهْلِهَا ... ولكنَّ أَخلاقَ الرِّجالِ تَضيقُ

رحلات غرائبيّة

أمّا السفر من أجل السياحة، أيّ السفر من أجل السفر، فهذه بدعة جاءت بها الحداثة، هي ظاهرة بدأت في أوروبا الغربيّة في أواسط القرن التّاسع عشر مُتزامنةً مع ظهور النقابات وتنظيم أوقات العمل والراحة الأسبوعيّة والعطل السنويّة. والمُفارَقة أنّ هذه الحداثة التي جاءت بالسياحة، هي نفسها التي قضت على متع السياحة وجوهر السفر المتمثّل في الإحساس بالغرابة والإيكزوتيك كما ذكرت...

سافرَ الرحّالةُ والسيّاح الغربيّون في البدء إلى البلاد القريبة المُتاخِمة لأوروبّا جنوب المتوسّط، أو ما تسمّيه العرب العدوة الجنوبيّة لبحر الروم. سافروا إلى تونس والجزائر والمغرب ومصر وبلاد الشام، وكانوا يلتقون عوالم ثقافيّة مغايرة. كانوا يجدون في هذه البلاد ما هو مُغايِر، ومُبهِر، وغرائبي. واليوم بَدأ التغايُر الثقافي والإثني في الخبوّ والتلاشي، وبدأ العالَم يمضي نحو تجانُسٍ مقيت، بل درامي... وصار السفرُ للراحة، ولم يَعُد مَصدراً لاكتشاف الجديد. وصارَ من المستحيل أن تُكتب نصوصُ رحلاتٍ غرائبيّة زاخرة بالعجائب على غرار كتابات الرحّالة العرب القدامى الذين كانوا يُبحرون، ومنذ أواسط القرن التّاسع الميلادي، من مرافئ البصرة وسيراف حتّى بحر الصين الذي أدركه سليمان التاجر قَبل أن يَصلَهُ ابن بطّوطة، وماركو بولو Marco Polo. تلك الكتابات التي تَرتفع أحياناً قِصَصُها العجائبيّة إلى مستويات «ألف ليلة وليلة».

اليوم، صار نصُّ الرحلة يستند إلى عالَم الكاتب الداخليّ، وما يَعتمل فيه من انفعالاتٍ أكثر ممّا هو وصفٌ لمشهدٍ خارجي هو متجانِس ومتشابه في كلّ بقاع الدنيا. واقتربتْ نصوصُ الأسفار من الأدبِ الأوتوبيوغرافي، أدب السيرة الذاتيّة؛ بل تماهت مع السيرة.

وهكذا بعدما تركتِ الروايةُ مكانَها للسيرة الذاتيّة، كما تنبّأ بذلك مارك توين قَبل عقود من الزمن، وكان هنري ميلر هو التجسيد المتوهِّج لهذه النبوءة، ها هو سردُ الرحلة ينضمّ هو أيضاً إلى عالَم الكتابة الأدبيّة، من سيرة ذاتيّة وشِعر، ويترك مكانَه لها. وفي هذا السياق، يقول الكاتبُ الفرنسي بليز سندرار: السفر متأصّل في الشِّعر: رحلات جغرافيّة، ولكنْ أيضاً رحلات الحواسّ. إنّ التشرُّدَ هو في الواقع مصدرٌ للتنوير الشعريّ بمشهديّاته المُختلفة.

*شاعر وكاتِب من تونس

* ينشر التزامن مع دورية أفق الإلكترونية.