منذ يومين حمل إلي أخى الصغير صفحة مصورة من جريدة، بها صورة لجنودكم يرقصون على رصيف المحطة التى سافروا منها إلى ميادين القتال، وقد سألنى أخى عن معنى ذلك.

أما معناه فلست أعرفه على وجه الحق، وإنما أحس به شعورا لطلول ما عاشرتكم. أتذكرين يوم عدنا على الأقدام إلى ديارنا عقب المسرح، وفى السماء أضواء خفيفة تشبه نعومتها لؤلؤ العقود. أذكر أنه كان مساء مما ينطلق فيه لساني ولا يهولنك الأمر، فما زالت كما كنت حتى فى سكون الريف رجل النزوات الذى يتناوب حياته ما علمت من قيض ودافع.

تذكرين أنى ذكّرتك يومئذ بالقول الجميل الذى ما كان يستطيع أن يقوله إلا رجل منكم، قول فرانسوا مورياك Francois Mtuiriac إن «المرح عبادة».


لقد أدهشك يومنذ أن يصدر هذا القول عن مورياك والرجل على ما نعلم من تدين، وامتد الحوار بيننا أخذا وردا، ولو أنصفت لأبدلت لغة الحوار بالهمس.

وجدنًا الرأى الفصل بعقد القياس بين تلك الكلمة التى سمعتها عن مورياك وروايته التى كنا عائدين من رؤيتها. وهنا اسمحى لي أن أشير إلى موضوعها، فالأمانة تقضي علي إشراك القارئ في حوارنا ما دمنا قد أسلمنا إليه سياق الحديث.

فرانسوا مورياك من بلاد الغابات Les Landes التى تمتد على طول ساحل فرنسا الغربى، ولبلاد الغابات أساطيرها.

ومن تلك الأساطير أسطورة روح لها قدرة على دفع أسقف المنازل، لترى ما تحوي من أفراح وأتراح. ففي ذات يوم قص «أسمودية» على «مورياك» حياة عائلة كبيرة من الريف فقدت عائلها.

ورأى «مورياك» فيما قص عليه ما يستحق الخلود، فعرضه على المسرح على ما به من إيلام. عاهدتك أن أجعل التواضع أول شعائرى، واليوم أود ألا ترى فيما أقول غير ذلك، فالأمر لا يعدو حيلة بلاغية. ذلك أنى أود أن ارتحل لزمن يسير قدرة «أسمودية»، فأفض غلافة ابتسامتكم الجميلة، لأنظر ما تحوي من جد يعجز عنه أصرم الناس تقطيبا لوجهه.

لست أخبرك جديدا إن ذكرتك بما أنا مؤمن به من دلالة النماذج الأدبية، ولننشر مرة أخرى ما طواه الزمن. أتتنى تلك الفكرة، وما اخالك إلا ذاكرة ذلك، فليس فى نفسى شيء لا علم لك به، ونحن منصرفون من رؤية رواية الكاتب الإيطالى الفحل بيراندللو Pirandello يوم زعم أنه لقي ستة نماذج بشرية تبحث لها عن روائى يعطيها الوجود، وإذا بالأدب يخلق نماذج، ولهذه النماذج دلالاتها، ففيها تتركز أنواع من الخلق، فأوارتللو هو نموذج الرجل الغيور غيرة جنسية، وهاملت رجل شهوة الانتقام، وهرياجون رجل الحرص البشع، والـAlcesti رجل الفضيلة المفرطة، وجوردان نموذج من أثرى بعد فقر، فهو محدث نعمة، وجفروش هو المثل الحى لغلمانكم بباريس. أما أنموذج الرجل الفرنسي.. أنموذجكم القوى، فقد استقر الرأى بيننا - أليس كذلك - على رؤيته فى شخصية فيجارو.

1939*

* ناقد أدبي وكاتب مصري «1907 - 1965»