ينسب لهيجل قوله: (ما تعلمناه من التاريخ هو أن الناس لم يتعلموا شيئاً من التاريخ)، وهذا ما أتمنى أن يكذِّبه الشعب السوري بعد دروس عاشوها بدمائهم ودماء أبنائهم، وعاصرها حتى أطفالهم أحداثاً طيلة سنوات وقد أصبحوا شباباً الآن، فهل يستطيعون تكذيب هيجل؟! فرغم مبشرات (التوافق الدولي) على (الخطوط العامة) تجاه سوريا (حتى الآن)، فإن (شيطان التفاصيل) يقف هناك بجوار الشعارات يقول وهو يضحك: لم يحن دوري بعد رابتاً على كتف (الإسلام السياسي بأطيافه)؟! فالتوافقات (البريطانية الفرنسية) بعد الحرب العالمية الأولى، وبعد أن يقرأها المهتم بحركة التاريخ سيكتشف أن الإشكال لم يكن في واقعنا العربي على (الخطوط العامة) المتفق عليها بين الدول العظمى آنذاك، بل الأزمة وقعت في التفاصيل التي تعيشها الشعوب تحت هذه الخطوط الدولية فهناك انقلابات، وهناك اغتيالات، وهناك ميلاد أيديولوجيات جديدة تم اغتيالها في مهدها (أنطون سعادة مثلاً)، وهناك أيديولوجيات شبت عن الطوق (الإخوان المسلمون، البعث العربي، القومية الناصرية).

إذن هناك خطوط عامة ستتفق عليها الدول العظمى، ومن أهمها طبعاً (أمن دولة إسرائيل) التي حسمت منذ الآن قضية (الجولان) لصالحها وتجاوزتها حماية لحدودها... وليتوقف القوميون عن البكاء، وليتوقف إخوان المسلمون عن التباكي فلا يزال نص رسالة عضو حزب الإخوان المسلمين (محمد مرسي) بصفته رئيساً لمصر إلى نظيره الإسرائيلي شمعون بيريز موجوداً على (النت) وقد أقرت بمصداقيته حتى قناة الجزيرة مبررة ذلك بأنه (خطاب بروتوكولي) مع تأكيد التزامه بمعاهدة السلام.

كلما سمعت صوتاً يرفع شعاراً (قومياً) أو (إسلامياً) تحسست قلمي محذراً: (هنا دجال يستميل دهماء)، وكلما سمعت صوتاً يحدثني عن (فلسطين) من غير الفلسطينيين قلت له: صه، فمن يده في النار ليس كمن يده في الماء، متمنياً لكل (فلسطيني مشرد) امتيازات ورفاهية (المفكر السياسي الدكتور عزمي بشارة) الذي جمع الحسنيين في مهارات من (يرعى مع الراعي ويعدي مع الذيب) فقد عاش (مناضلاً قومياً باسم العروبة، ومواطناً إسرائيلياً يعرب عن سعادته في 2003 بقرار المحكمة الإسرائيلية العليا في السماح لنواب حزبه بخوض الانتخابات التي أتاحت له أن يكون عضو كنيست إسرائيلي لمدة 11 عاماً)، مع تفهمي للسلوك البرجوازي في تموضعه ما بين قوميته ومواطنته، ولكن ما ذنب الطبقات المسحوقة من قوميته في فقدها لهذه اللياقة البرجوازية العالية؟!


كلما سمعت فلسطينياً متعلقاً بشعارات قومية أو إسلامية شربها منذ الصغر، قل له: راجع تجربة (مصعب بن حسن يوسف)، ابن القيادي في حماس/ حسن يوسف، لعلها تجعلك تتقيأ شعارات لا علاقة لها بالواقع دون أن تتطرف بالاتجاه المعاكس مثل مصعب، فالدم (الفلسطيني الفلسطيني) مع الحق الفلسطيني ضاع بسبب (التناجش السياسي) بين الفلسطينيين أنفسهم وصولاً لسفك الدم (ضحايا فتح على يد حماس). وبالنهاية مات (يحيى السنوار) لنقول له: فعلكم حقق الكثير على الخارطة العربية مثل فعل سلفكم، فما سمي (غزوة منهاتن/11 سبتمبر) نتيجتها (أسقطت دولتين وشرَّدت شعبين، العراق/أفغانستان) وعاد البرجان أجمل مما كانا ولم تندمل جروح الشعوب حتى الآن، وها نحن نرى عواقب (طوفان الأقصى/7 أكتوبر) ثم الاختباء في جحور/أنفاق داخل غزة، ثم الصعود لبناية بحثاً عن أكسجين يملأ الرئتين، ونور يملأ العين، قبل شجاعة المواجهة ضد طائرة درونز صغيرة، لم ينقصكم يوماً ولا أسلافكم (قلب شجاع/إيماناً بالموت) النقص كان في (العقل الأعلى/علماً بالحياة).

بعضنا يتوهم أن (جمال عبدالناصر) مات 1970، وفي ظني أن (جمال عبدالناصر) مات الآن فعلاً، وهذا سيسعد كل (العقلاء العرب) الذين يستفيدون من (دروس التاريخ) وللأسف (هم قليل جداً) ويحاربهم كثير من الشعبويين، يقودهم الإخوان المسلمون (المتباكون إرجافاً للعقلاء بهياج الغوغاء) ومن يريد الترميم لقبول سياسي في المجتمع الدولي فهو يرمم نسخة سنية رديئة تشبه (ماضي) حزب الله الشيعي في لبنان، فإن أمسك بالدولة كان أردأ من نسخة الترابي الذي أصبح بسببه السودان سودانين، ثم سيعرب (متأخرو الفهم) عن قلقهم بعد ذلك على الأردن من نفوذ الإخوان المسلمين في سوريا، وأظن إيران ستجد في إخوان سوريا ما وجدته في إخوان حماس، نعم (الإخوان المسلمون) فصيل من المكون السوري، لكن تاريخهم العابر للدول يكرر أخطاءه في التغول السياسي (منذ الدعوة مروراً بالمغالبة البراغماتية وصولاً للتمكين مع مراعاة فقه الواقع... إنها الخلافة على منهاج النبوة.... تكبير.. الله أكبر!).

(بشار الأسد) سقط سياسياً منذ (2012) وهرب نهاية (2024)، واستفدت مراجعة ذاتية لكلمة (ساقط) التي كنت أسمعها أيام المدرسة لمن لم يتجاوز إحدى المواد، لتتسع الدلالة عندي إلى مفاهيم أخرى تجمعها كلمة (ساقط)، إن بشار (شيء) مجرد (شيء) يطرح كنموذج في درس العلوم السياسية يوضح المراحل المتقدمة لما يسمى (التفسخ) الأيديولوجي/السياسي للشرعية، المؤدي إلى مرحلة (التعفن الرمي) الذي عاش تحته الشعب السوري وزكمت منه أنوف (حلفائه) ثم كان كأن لم يكن.

أحمد للدول التي تملك نفوذاً مباشراً وغير مباشر في سوريا أنها تجنبت خيبات بريمر وقانونه في (اجتثاث البعث) لأنه خلق في العراق ما لم تندمل جراحه حتى الآن، ولا داعي لأوهام (أخطار الفكر البعثي) في سوريا، لأنها أوهام لم تعشها (روسيا) في ما بعد (تفسخ) الأيديولوجيا الشيوعية، ولم تعشها الصين في ما بعد سقوط الاتحاد السوفيتي، فتلك دول عظمى، لاحظ أن العظمة مرتبطة بكل المتعلمين من دروس التاريخ، والنهايات التراجيدية مرتبطة بكل من يرفضون التعلم منها، فيأتي عليهم بصورة مهزلة تجعل السياسي فائق الشيخ علي يبكي أيام صدام (تهكماً) بما رآه من فجيعة الواقع العراقي بكل أبعاده بعد (سقوط النظام 2003) وحتى الآن.