وظلت هذه الشركات طوال العقود الماضية تؤدي دورا مهما في نهضة وتطور الاقتصاد السعودي باعتبارها رأس الرمح في القطاع التجاري والصناعي وجزءا مهما من البنية التحتية الاقتصادية وذلك لقدرتها الكبيرة على التكيف مع المتغيرات المتسارعة ومسايرة التطورات المتسارعة على مستوى العالم.
ورغم التغير في المفاهيم وظهور شركات المساهمة العامة، فإن هذا النوع من الشركات حافظ على بقائه واستمر في تحقيق النجاحات والمكاسب، وذلك للمزايا الكثيرة التي تجعلها خيارا مفضلا لعديد من العائلات، وهو ما يكسبها القدرة على الاستقرار والاستمرارية، حيث يكون هدف هذه الشركات هو المحافظة على مصالح العائلات المالكة لهذه الشركات وتواصلها على المدى الطويل.
وإذا نظرنا إلى السبب الرئيس في ظهور هذا النوع من الشركات وانتشاره في المملكة، سنجد أن المجتمع السعودي مجتمع عائلي بامتياز في المقام الأول، حيث يحافظ على ترابط نسيجه الاجتماعي ويحظى فيه الأكبر سنا باحترام بقية أفراد العائلة، إضافة إلى استمرار المصاهرة بين الأجيال الجديدة من العائلات.
لذلك فإن وجود هذه القيم الأسرية التي تفرض احترام الأكبر سنا ومقاما تضمن المرونة في اتخاذ القرارات، مما يؤدي لتعزيز الثقة وترسيخ روح الفريق بين أفراد الأسرة، ومن ثم فإن ذلك يقود إلى استدامة العلاقات العائلية والتواصل الجيد من خلال عملية اتخاذ القرار المشترك والحفاظ على تقاليد وقيم الأسرة في الأنشطة التجارية، مما يمنح جميع أصحاب المصلحة الشعور بالانتماء والهوية العائلية.
وللتأكيد على الدور المتعاظم للمنشآت العائلية في السعودية تكفي الإشارة إلى أن تقريرا صادرا عن البنك المركزي السعودي يشير إلى أنها تمثل نحو 95% من إجمالي المنشآت العاملة في المملكة، وهو ما يتجاوز المعدل العالمي الذي يبلغ 70%. كما تسهم هذه المنشآت بما يعادل 66% في الناتج المحلي الإجمالي للقطاع الخاص، وتوفر فرصا وظيفية لنحو 56% من موظفي هذا القطاع، مما يعادل 48% من إجمالي القوى العاملة في المملكة.
رغم كل هذه المزايا فإن هناك مخاطر عديدة تواجه هذه المنشآت، فالعالم يتغير بسرعة مذهلة، وأصبح التوجه نحو الشركات المساهمة هو الأبرز في جميع أنحاء العالم. ومما يزيد من هذه المخاطر عدم وجود خطط لتعاقب الأجيال، وسيطرة كبار السن على مقاليد الأمور في معظم الأحوال واستئثارهم بالمناصب القيادية، وهو ما يوجد العديد من التباين في الآراء.
فالأجيال الجديدة التي درست في جامعات مرموقة عادت بأفكار حديثة ومختلفة عما هو سائد، وعندما يحاول هؤلاء تطبيق ما تعلموه في دراستهم الأكاديمية فإنهم يصطدمون بأصحاب الأفكار المحافظة الذين يرون في تلك الأفكار والأنماط الحديثة مغامرة غير محسوبة العواقب، ومن هنا تحدث الاختلافات في وجهات النظر التي قد تتحول مع مرور الأيام إلى صدامات قد تهدد استمرار هذه المنشآت.
كذلك فإن من أبرز المشكلات التي تواجهها هذه المنشآت عدم فصل الملكية عن الإدارة، حيث تعاني من مشكلة في وجود الإدارة ذات الكفاءة، وعدم استقطاب الكفاءات الإدارية المتميزة وغياب معايير الحوكمة الرشيدة، فمعظمها لا تزال مؤسسات فردية، ولم تتحول إلى شركات مساهمة مغلقة أو مبسطة، إضافة إلى عدم تنظيم علاقة العائلة بالعمل التجاري وعدم التوافق على عدد من القضايا الشائكة مثل التوجهات العامة للمنشأة، وتوظيف أفراد العائلة، ودور المرأة.
وبناء على هذه الأهمية، ولما تلعبه هذه المؤسسات من دور كبير في تطور ونمو الاقتصاد الوطني فقد تم تأسيس المركز الوطني للمنشآت العائلية بناءً على مرسوم ملكي كريم لتعزيز دور هذه المنشآت في التنمية الاقتصادية والاجتماعية، وتحسين قدرتها التنافسية، وزيادة مساهمتها في الناتج المحلي الإجمالي. حيث يعمل المركز على تعزيز مبادئ الحوكمة لضمان استدامة هذه المنشآت وانتقالها السلس بين الأجيال.
كما يولي المركز أهمية خاصة لتطوير القيادات المستقبلية عبر تقديم برامج تدريبية لتأهيل الأجيال الجديدة، وإيجاد حلول مرضية للنزاعات التي قد تنشأ بين الملّاك بما يسهم في حماية مستقبلها، وتشجيع إدراج المؤسسات العائلية في السوق المالية والتحوّل إلى شركات مساهمة، إضافة إلى عديد من الأدوار الأخرى المهمة.
كما يضطلع المركز بدور في غاية الأهمية يتمثل في تأسيس منظومة متكاملة تسهم في استدامة وتنمية المنشآت العائلية وتعزيز مساهمتها في التنمية عبر رفع الوعي والتدريب، وعكس هموم ومشاغل هذه المنشآت لصنّاع القرار، وهو ما تجلى في نظام الشركات الجديد الذي أسهم المركز في صدوره بشكل كبير لتمكين المنشآت العائلية وضمان استدامتها، حيث ينص النظام الجديد على وجود ميثاق عائلي ينظم علاقة المنشأة بالعائلة، وتتفق من خلاله العائلة على توجهات المنشأة، وسياسة توظيف أفرادها، وآليات التخارج، وتوزيع الأرباح، وغيرها من القضايا المهمة.
وما دمنا نعيش في عهد رؤية 2030 التي تهدف لتطوير المجتمع وتحقيق التنوع الاقتصادي، فإن هذه المنشآت العائلية مطالبة بالابتكار والتطوير والاستثمار في تدريب أجيالها الجديدة ونقل الخبرات لها وتقديم أفكار مبتكرة، ومواكبة المتغيرات وجذب المواهب، فهي لا تخص أصحابها فقط، بل يمتد تأثيرها الإيجابي ليشمل المجتمع بأكمله، لا سيما إذا استصحبنا الدور الخيري والإنساني الكبير الذي اضطلعت به خلال الفترة الماضية، واهتمامها بواجب المسؤولية الاجتماعية، وهو ما يجعل بقاءها واستمرارها مصلحة وطنية في المقام الأول.