جاء مسلسل المفاجآت من حيث لم يكن متوقعاً، من تلك الزاوية في الشمال الغربي السوري، إدلب، التي صُنفت «بؤرة إرهابية»، وكانت فيها بالفعل مجموعات مسلحة تثير الارتياب بانتماءات ومسميات شتى لفصائلها وأفرادها لا توحي إلا بـ«أمراء حرب» متنافسين على الأرض والغنائم، ولا تترك مجالاً لاستشراف أي «مشروع تحرير» كالذي تبدى أمام السوريين بل أمام العالم. لكن هذه «البؤرة» كانت أيضاً مساحة شاسعة لمخيمات اللجوء المذلة التي فضلها قاطنوها على مساكن عُرضت عليهم لكنها تحت سيطرة النظام.
مَن يصدق أن «إسلاميين متشددين» كانوا يُنسبون إلى «القاعدة» وأحياناً إلى «داعش»، ودائماً إلى «جبهة النُصرة» أو «هيئة تحرير الشام»، هم الذين سيُكتب لهم أن يحققوا «الحلم المستحيل» لعموم السوريين. نعم، مرت «الهيئة» بتقلبات وأيام، كانت فيها مجموعات غرباء من شرق أوروبا ووسط آسيا، لكنها تخلصت منهم شيئاً فشيئاً، بضربات عسكرية أميركية وتركية، وأحياناً بمشاركة روسية. أعيد إنتاج هؤلاء الإسلاميين ليشكلوا مع قدامى العسكريين المنشقين «إدارة العمليات العسكرية» كمرجعية واحدة تحت راية واحدة هي «علم الثورة» وبخطاب واحد لا يميز بين السوريين ويحظر التعرض لمؤسسات الدولة بل يدعو لإبقائها تحت مسؤولية آخر رئيس للوزراء في عهد النظام... لعل هذا التغيير في سلوك هؤلاء «الإرهابيين» هو الإنجاز الأهم الذي مهد للعهد الجديد في سوريا. هناك بين السوريين المغتبطين بالحدث مَن يتساءلون بحق عما إذا كان محرروهم هم فعلاً كما يظهرون أم إنهم يُضمرون شيئاً آخر في نفوسهم. لن يتأخر الوقت حتى تظهر الحقيقة.
بالنظر إلى ما شهدته سوريا من أهوال وفظاعات- أكثر من مليون إنسان بين قتيل ومفقود، ونصف السكان مهجر في الداخل أو لاجئ في الشتات، ودمار كبير- لم يكن ممكناً تخيل سيناريو لسقوط نظام متجذر أفضل من ذلك الذي حصل، وبأقل حصيلة دموية. لكن العمل الجدي الآخر يبدأ الآن، ومن أهم ما جاء في بيانات «الثوار» أنهم يتوجهون إلى بناء الدولة على أساس القانون. والواقع أن على الجميع، بمن فيهم الموالون للنظام السابق، أن يقلوا على المساهمة، فمشاريع التقسيم لم تعد واردة، وإذا كان هناك مَن لا يزال يحلم بها فإنه يغامر بالدفع إلى اقتتال أهلي لا نهاية له. كان نظام بشار الأسد صمد بفعل إرادة دولية، وكانت لديه كل الفرص ليطرح مبادرات خصوصاً بعدما أعاد العرب الانفتاح عليه، وقبل ذلك ما حاولت روسيا إقناعه به أو ما عُرض عليه بواسطة الأمم المتحدة، لكنه فضل الاستماع إلى الإيرانيين واعتبرهم نقطة القوة المتبقية له، فإذا بها نقطة الضعف التي صنعت نهايته.
من الدعم الواضح لـ «إدارة العمليات العسكرية» في الشمال الغربي، إلى الدفع بـ «قسد» في الشمال الشرقي لإغلاق «الكوريدور» الإيراني، إلى تحرك «الجبهة الجنوبية» من درعا و«جيش سوريا الحرة» من التنف... لم يكن صعباً التعرف إلى معالم الدور الأمريكي الحاسم في هذا الحدث السوري التاريخي. لكن من شأن واشنطن الآن أن توضح أهدافها بالعمل مع السوريين كافة من أجل استعادة الاستقرار لبلدهم. شعوب كثيرة حول العالم حصدت خيبات أمل من الولايات المتحدة وأخطائها التاريخية. والمطلوب الآن انتقال سريع إلى العملية السياسية قبل أن يعود الميدان إلى تغيير الحقائق. كان هناك مشروع مجلس عسكري، وقد جرى انضاجه أخيراً ليصبح مجلساً انتقالياً عسكرياً- مدنياً يعمل بمثابة حكومة موقتة تدير البلاد وتعد للانتخابات. في انتظار، وعلى رغم ما سيبدو من تقاسم دولي- إقليمي غير معلن لسوريا، لا بد من استبعاد مشاريع كـ «الدولة الكردية» أو «دولة الساحل» وغيرها، لأن تفتيت سوريا يعني حروباً مستدامة.
* ينشر بالتزامن مع موقع «النهار العربي» .