هذا ما أكَّدته غولدا مائير رئيسة الوزراء قبل حربِ السادسِ من أكتوبر 1973 بتسعةِ أشهرٍ تقريباً، أثناء حفلٍ في واشنطن بقولها "روح إسرائيل تفضّل الموت على الاستسلام لمخاوف الماضي اليهودي المُظلمة"، وإنّ الماسادا تُمثِّل لإسرائيل "رمزاً لا مثالاً"، لذا كان من الطبيعيّ أن تنعزل إسرائيل خلف جدرانٍ عالية، وكأنّ الأسطورة تتكرّر بالمُعادلة الصفريّة ذاتها، أي التي لا يربح فيها أحد، وهو الأمر الذي أَجهض مُحادثات السلام مع العرب.
وعلى الرّغم من تحوُّل إسرائيل إلى واحدةٍ من أقوى دول المنطقة عسكريّاً، إلّا أنّه يبدو أنّ "عقليّة الحصار"، أي النزعة للنظر للآخر نظرة عداء وتوجُّس وشعور مُستدام بالخطر الوجوديّ، لم تُفارقها كليّة. فرمزيّة الماسادا وما لها من تفسيرات في التاريخ اليهودي قد ترسَّخت في العقل الجمعي الإسرائيلي.
ويؤكّد الجنرال الأميركي ستيفن بلم، قائد مكتب الحرس الوطني الأميركي، أثناء زيارةٍ للماسادا أنّ "الماسادا جزءٌ من الوعي الإسرائيلي اليهودي"، وأنّ "الدولة اليهوديّة لا تزال في ساح الحرب من أجل البقاء حتّى اليوم".
وينمو الاعتقاد بأنّ إسرائيل تعيش اليوم أكثر لحظاتها تطرُّفاً، إذ باتت روايات التاريخ اليهودي وأساطيره أكثر رواجاً بين قادة إسرائيل المدفوعين نحو إجراءاتٍ أكثر تطرُّفاً وتوصَف بأنّها انتحاريّة. الأمر الذي وصفه الحاخامُ الأميركي جيفري سالكن بأنّه دربٌ تجاه ماسادا جديدة، والفَرق هو أنّ حَمَلَة الخناجر قَبل ألفَي عام باتوا الآن يملكون رؤوساً نوويّة.
ويحجّ اليوم كثيرٌ من اليهود والجنود الإسرائيليّين الجُدد إلى تلّة الماسادا، أو ما يُعرف عربيّاً بجبل مسعدة، ويصعدون الطرق الجبليّة المؤدّية إليها مشياً على الأقدام، اقتداءً بقادة التمرُّد الذين تحصّنوا فيها منذ ألفَيْ عام، ويقيمون معسكراتهم هناك كجزءٍ من مراسم الانضمام للجيش، والتي تنتهي بالهتاف "الماسادا لن تسقط مجدّداً".
وقد تعزَّزت رواية الماسادا بعد حرب العام 1973 التي خاضتها إسرائيل ضدّ مصر وسوريا، حيث ترى الأكاديميّة الإسرائيليّة يائيل زيروبافل في كتابها "Recovered Roots" أنّ ما كاد يكون هزيمة مؤلِمة لإسرائيل في الحرب أعاد للمخيال الشعبي للماسادا التذكير باستمراريّة مُعاناة الشعب اليهودي، ما استنفرَ الشعبَ اليهودي الصهيوني لإحياء أمجاد حَمَلَة الخناجر الأوائل.
ويرى الباحثان الأكاديميّان ثيودور ساسون وشاؤول كيلنر، أنّه في العقدَيْن الأخيرَيْن انحرفَ تعريف الماسادا من تصوُّرٍ رمزيّ للسيادة والأنفة اليهوديّة ليعكس الصراعَ الداخلي في إسرائيل بين عقائد سياسيّة مُتناحرة تُهدِّد وجودَ الدولة، وفي قلب هذا الصراع أحزاب اليمين الدّيني المتطرّف. وفي اللّحظة الحاليّة صارَ المتطرّفون قادةً وأعضاءً فاعلين في الحكومة اليمينيّة المتطرّفة، وتفوّقوا على مُعارضيهم، وحصلوا على أغلبيّة أصوات النّاخبين في انتخابات سنة 2022، مكوِّنين التحالُف الأكثر تطرُّفاً في تاريخ إسرائيل.
وأوضح ديفيد شين، الصحافي والباحث الإسرائيلي الكندي، تحوُّلَ الفكر الصهيوني خلال قرنٍ من الزمن من حراكٍ علماني على يد أمثال الأب الروحي للصهيونيّة ثيودور هرتزل، الذي سعى إلى تغيير الصورة النمطيّة عن "اليهودي الضعيف ابن الغيتو" ودمْج اليهود في المجتمع الغربي، إلى دولة دينيّة متطرّفة يقودها أمثال إيتامار بن غفير وبتسلئيل سموترتش، لا تَخجل من المُجاهرة بعنصريّتها ودمويّتها، ويُطالِب فيها البعض علناً كالمؤرِّخ بيني موريس باستخدام الأسلحة النوويّة، أي "خيار شمشون" ضدّ أعداء إسرائيل.
إعادة صَوْغ أسطورة الماسادا
وقد عاشتِ الحركاتُ الصهيونيّة المتطرّفة أزهى عصورها بعد حرب 1967، وفي هذه الحرب الخاطفة احتلَّت إسرائيل باقي فلسطين وهضبة الجولان السوريّة وشبه جزيرة سيناء المصريّة، مُضاعِفةً مساحتها الجغرافيّة ثلاث مرّات، وهذا "التطوُّر" رآه الصهاينة المتطرّفون "معجزة التحرير" التي وُلدت فيها دولة "إسرائيل الكبرى". لكنّ كلّ ما جمعته الحركاتُ الصهيونيّة المتطرّفة من تأييدٍ في خمسينيّات القرن الماضي وستّينيّاته، ضَعُف وتراجَعت أفكارهم داخل المُجتمع الإسرائيلي اليهودي مع حرب العام 1973، وما تبعها من اتّفاقيّة كامب ديفيد بين مصر وإسرائيل، وصولاً إلى نهاية الثمانينيّات، ثمّ مفاوضات أوسلو بين إسرائيل ومنظّمة التحرير الفلسطينيّة واتّفاقيّة وادي عربة مع الأردن في منتصف التسعينيّات.
هذه التغيّرات التي حدثتْ حتّى منتصف تسعينيّات القرن الماضي حفَّزت الحركاتِ المتطرّفة لِما مثّلته من تهديدٍ جسيم لرؤاهم؛ بحيث تجسَّد ذلك بدايةً بالمجزرة التي نفَّذها المُستوطنُ باروخ غولدشتاين في الخليل في العام 1994 وقَتل فيها تسعةً وعشرين فلسطينيّاً في أثناء صلاة الفجر في الحَرَمِ الإبراهيمي. تَبع ذلك قيام المتطرّف الدّيني إيغال عمير باغتيال رئيس الوزراء الإسرائيلي إسحاق رابين احتجاجاً على اتّفاق أوسلو.
وقد تعزّزت هذه الصدامات في فترة فكّ إسرائيل الارتباط مع قطاع غزّة في العام 2005، والمُعارَضة العنيفة من طَرَفِ المستوطنين لرئيس الوزراء أرئيل شارون، وادّعائهم بأنّها خيانة من الدولة العلمانيّة لتعاليم التوراة بإرغامها اليهود على مغادرة "أرض إسرائيل التاريخيّة".
وقد نَجَحَ المتطرّفون في التحوُّل إلى مُتصدِّري المشهد بعدما كانوا على الهامش، ومنهم إيتامار بن غفير، أحد أتباع مئير كاهانا المُخلصين، ووزير الأمن الداخلي، وبتسلئيل سموترتش، وزير الماليّة في حكومة بنيامين نتنياهو، اللّذَان أصبحا وجه الصهيونيّة الجديدة (الكوكيّة) التي ترعاها وتموِّلها الدولةُ اليوم بلا مواربة. وقد تعلَّم المتطرّفون في أكاديميّات مثل أكاديميّة "بني ديفيد" العسكريّة الدّينيّة في الضفّة الغربيّة، التي أسَّسها الحاخامان إيلي سادان وييغال لفنستين، إذ يرى أحد مُدرِّسي الأكاديميّة وهو أليعازر قشطييل أنّ الربَّ سيُساعد ليصير غير اليهود عبيداً لليهود، وحينها ستَبدأ حياتهم الحقيقيّة. ويؤكِّد غيورا رِدلر المُعلِّم في الأكاديميّة أنّ منطق النازيّ، بتحديد فئة من البشر كمصدرٍ للشرّ في العالَم ثمّ إبادتهم، هو "أصلح منطقٍ أخلاقيٍّ في التاريخ"، وأنّ الخطأ الوحيد كان تطبيق هذا المنطق على الفئة المُختارة اليهود. وهذه التصريحات مُعلَنة، ويُمكن العثور عليها في موقع مثل "تايمز أوف إسرائيل". ولَم يعاقَب أيٌّ من هؤلاء الحاخامات على تصريحاتهم، بل تمَّ تكريم إيلي سادان بأرفع جائزة رسميّة تمنحها إسرائيل في حفلٍ حضره بنيامين نتنياهو.
ويرى جدعون ليفي أنّ آليّات نموّ الأفكار المتطرّفة في إسرائيل تتضمّن:
- الظاهرة الأولى: سجَّلَتها نوريت بيليد إلحنان في كتابها "فلسطين في الكُتب المدرسيّة الإسرائيليّة"، وفيه استَخدمَ المتطرّفون سياسة "الآخَريّة"، أي تحويل الفلسطينيّين إلى "آخَر" مُجهَّل بلا معالِم ومنزوع الإنسانيّة والأحلام والطموحات في مناهج إسرائيل التعليميّة؛ إذ يصوَّر الفلسطينيّون في المناهج شعباً بلا وجوه وبلا تاريخ وبلا ثقافة، ويَظهرون في تلك الكُتب جماعاتٍ، مرسومين على أنماط وليدة خيال الراسم، ولا يُشار إليهم إلّا بكونهم "جحافل من اللّاجئين" أو "مزارعين بدائيّين" أو "مشكلة" أو "سؤال" على غرار أوصاف النازيّين لليهود، بلا سياقٍ حضاري أو إنساني أو تاريخي؛ فهم لاجئون لا يُعلم مَن طَردهم من بيوتهم، بلا مُدن ولا قرى ولا مناطق ولا أسماء.
وبعد صعود حزب اللّيكود إلى السلطة وتولّي آرييل شارون رئاسة الحكومة في العام 2001 بعد اشتعال الانتفاضة الفلسطينيّة الثانية، قامَ وزير التعليم اليميني ليمور ليفناك بمُراجَعة المناهج الدراسيّة، ومَنَعَ بعضَ الكُتب من التداول في المدارس لكونها متسامحة مع الرواية الفلسطينيّة. ومع صعود اللّيكود إلى السلطة برئاسة بنيامين نتنياهو في العام 2009، اتَّخذ وزير التعليم حينئذ جدعون ساعر إجراءاتٍ تهميشيّة للوجود الفلسطيني في الكُتب الدراسيّة، حيث مُنعت ثلاثة كتب دراسيّة إضافيّة، وفُرِض حظرٌ على استخدام كلمة "نكبة" في المناهج الدراسيّة.
- الظاهرة الثانية: مُغالاة المؤرّخين الجُدد أمثال إيلان بابيه وآفي شلايم، وعُلماء الاجتماع والصحافيّين اليهود في الإقصاء والتشدُّق بالروايات التاريخيّة للصهيونيّة الدّينيّة لكونها حقّاً إلهيّاً.
وقد انعكسَ ذلك على الواقع الذي تؤمن به قطاعاتٌ من الإسرائيليّين، وهو أنّ دولتهم "تَستخدم قوّة غير كافية" في غزّة، في حين يتجمهر آخرون لاعتراض شاحنات المُساعَدة الآتية إلى غزّة وتخريب محتوياتها تحت حماية الجيش والشرطة. كما يعيث المستوطنون فساداً في الضفّة الغربيّة بتشجيعٍ ومشاركةٍ من وزراء أحزاب الصهيونيّة الدّينيّة داخل الحكومة وبمساندة نتنياهو.
لقد أعادت الحركةُ الصهيونيّة صَوْغ أسطورة الماسادا من روايةٍ تاريخيّة إلى رمزٍ مُلهِم لليهودي المقاتل، ولتحفيز هذا "اليهودي الجديد" على الهجرة إلى فلسطين واستيطانها. ومع صعود اليمين الدّيني المتطرّف، تطوَّرت هذه الرمزيّة لتُصبح مثالاً يقود تصرّفاتِ ذلك اليمين المتطرّف وتوجّهاته. وهو اليمين الذي بات مُسيطراً على صنْع القرار، والذي خاضت إسرائيل تحت تأثيره وتخوض أعنف مَوجات عنفها وعنصريّتها منذ نشأتها. وكأنّنا صرنا أمام مجموعة من حَمَلَةِ الخناجر الذين صَنعوا ماسادا جديدةً قد تكون أعنفَ وأشدّ، تسعى إلى التصعيد على كلّ الجبهات، وتُسرِّع الوتيرة تجاه حربٍ إقليميّة شاملة، وتستعدّ لإطلاق الرؤوس النوويّة في حال تهديد وجودها.
*أستاذ في كليّة التربية – جامعة الإسكندريّة
* ينشر بالتزامن مع دورية أفق الإلكترونية.