عادةً ما تطلب الجهات التي تنفذ إستراتيجيات كبرى من طرف ثالث محايد تقييم إستراتيجياتها، وتطور تنفيذها، وتقييم الإيجابيات والسلبيات، وتدفع مبالغ كبرى لذلك. فما بالك لو كان التقييم والمتابعة يأتيان من طرف ثالث يهتم بنجاح الرؤية، ويتابعها من أوجه وزوايا متعددة، وكل هذا مجاني دون الاستعانة باستشاري أو بيت خبرة؟ بل ستكون لديك العشرات من الخبرات من مختلف الطبقات والتخصصات، وهذا هو الإعلام!
بل أضيف معلومة واقعية وعلمية إذا قلت إن الرؤية ستستفيد من الإعلام بشكل علمي أكثر من أي بيوت خبرة من خلال المبدأ الشهير «حكمة الحشود» Crowd wisdom، وما أدراك ما هي «حكمة الحشود»، أو ما يطلق عليها أيضا
«حكمة الجماهير»، وهو مبدأ يشير إلى الذكاء الجماعي والمعرفة التي تنشأ من تعاون وتنافس العديد من الأفراد.
هذه الفكرة تقترح أن المجموعات الكبيرة من الناس تكون ذكية وفعالة بشكل جماعي في اتخاذ القرارات، وحل المشكلات، والتنبؤ بالنتائج أكثر من الأفراد الخبراء أو المجموعات الصغيرة من الخبراء! هذه الظاهرة تستند إلى فكرة أن وجهات النظر المتنوعة، والآراء المستقلة، والمعرفة اللامركزية يمكن أن تؤدي إلى نتائج أفضل.
حكمة الحشود قامت تاريخيًا بحل أعقد المشاكل، ووضع الحلول خلال وقت قصير ومجانًا، حتى أفضل من كبار اللجان وألمع العلماء الذين كلفوا مبالغ طائلة ووقت طويل. كما تم الوصول للحلول والنتائج نفسها خلال وقت قصير، ودون تكاليف من خلال حكمة الجماهير.
والأمثلة التاريخية كثيرة، لكن المقال عن الإعلام، فلا نريد الإطالة. لكن من يريد الاستزادة يستطيع البحث عن أمثلة نجاح حكمة الجماهير. في المقابل، حكمة الجماهير قد تأتي بنتائج سلبية إذا اختلت عناصر مهمة، وهي التوجيه والآراء المتنوعة.
إن الإعلام القوي الفعال الصريح هو قوة إضافية للرؤية ونشرها والدفاع عنها. أما الاعتقاد بأن الإعلام سيزداد تميزا وإبداعا من خلال مجموعة أو أفراد قليلين، فهو غير صحيح.
لا يستطيع أحد أن يدعي أنه يملك الحقيقة المطلقة أو له القدرة على صبغ الإعلام بصبغته الشخصية أو آرائه، وإن فعل فهو «متعيلم» وليس ذا علم!
سأذكر بعض الأمثلة التاريخية التي كان فيها الاستثناء هو الصحيح، وعكس القطيع:
- قبل سنوات، عندما كنا نهاجم أفكار الصحوة وهم في قمة قوتهم ونفوذهم، ولم نصغِ للمحبطين والمتملقين على الرغم من أن الكثيرين وقتها كانوا يداهنون الصحوة.
- عندما هاجمنا الإخوان وهم في قمة قوتهم خلال الخريف العربي، ووضعونا في القائمة السوداء، لم نصغِ للزملاء الذين أرادوا بعض المجاملات المداهنة، وكانوا يقولون إنهم الآن في السلطة.
- عندما كنا نكتب عن الفساد دون هوادة، ونشرنا الكثير، ولم يُنشر الكثير أيضا في سنوات الفساد المتغلغل في البلد، كان الكثيرون يلوموننا أن الفساد جزء من المجتمع، ولا يمكن استئصاله، فلا تتعب نفسك بكثرة الكتابة عنه، وأنك تنفخ في قربة مشقوقة، إلى جاءت حملة اقتلاع الفساد المبروكة بقيادة ولي العهد، واقتلعت من ظن الكثير أنه من المستحيلات.
- عندما أيدنا حملة الريتز ودافعنا عنها، في وقت لزم الكثيرون الصمت، حتى الصحافة العالمية ذكرت مقالتنا وصوتنا، لأنه كان شبه وحيد، أين كان المتعيلم!
- عندما دافعنا ضد الحملة المسعورة التي شُنت على المملكة والقيادة بلغات عدة وفي عديد الميادين، بعضها معروف وبعضها غير معروف بشكل يومي ومكثف، أين كان المتعيلمون!
- عندما كنا نكتب دفاعا عن سمو ولي العهد السعودي محمد بن سلمان، ونقول إنه سينتصر في النهاية على الرغم من الحرب الشعواء، كانت هذه قناعة وثقة نرددها في أحلك فصول الحرب، والآن انظر كيف يتوافد قادة دول العالم لطلب وده، هل تذكر صمت الكثيرين؟
- عندما كتبنا عن السياحة، وقارناها بالنفط في عام 2010، وقلنا إن السياحة مصدر لا ينضب، كان الكثيرون يبتسمون ويقولون لنا «اترك عنك الحماس الزائد، فالسياحة لن تكون حتى مصدر دخل رئيسي». انظر الآن ما أهمية السياحة أيها المتعيلم!
- عندما دافعنا عن مركز الملك عبدالله المالي، بعد أن وصفته «إيكونومست» الاقتصادية الشهيرة بأنه مجرد حلم وأبراج خالية على الرمال، وعاكسنا رأي خبرائهم، وقلنا إنه سيكون ناجحًا مثل الحي المالي في لندن. هل يستطيع أحد الآن إيجاد موطئ قدم فيه بسهولة بعد تأجيره بالكامل!
- عندما وضعنا أعمدة الاقتصاد السبعة قبل أكثر من عقد من الزمن، وقلنا إن النفط سيكون مجرد واحد من سبعة (المعادن، الخدمات اللوجستية، السياحة...)، ولن تعتمد المملكة على النفط، والبعض لم يصدق وقتها أن دولة تعتمد شبه كليا عن النفط بأن يصبح النفط عنصرا واحدا من عناصر، واعتقدوا أننا نحلم، والآن الاقتصاد غير النفطي أكبر من النفطي خلال سنوات قليلة فقط!
- عندما وضعنا معادلة لجذب التقنية والاستثمارات للوطن قبل سنوات طويلة، وقلنا عن هذه المعادلة إنها الطريقة الوحيدة الفعالة، وقلنا إنه يجب إنشاء صندوق للاستثمار في الشركات العالمية الكبرى، والدخول في إدارتها، للحصول على النفوذ فيها، ومن ثم إقناعها بنقل استثماراتها وتقنياتها ومصانعها للوطن، من تبنى هذه المعادلة؟!
أيها المتعيلمون لدي عشرات الأمثلة لأمور كنا شبه وحيدين فيها، وكنا عكس التيار، والآن انظر ما يحدث؟!
إذا ركب البعض الموجة، وأصبح يظن أنه يعلم ويتفلسف كيف يكون الإعلام! فهو مخطئ، فإن هذا لا يعني الكثير. أين هو وأين تاريخه في 2010 و2011 وأيام الحملات على المملكة!؟ وقت الرخاء ربما كل يدعي وصلا بليلى، وربما الكثيرون يريدون ركوب الموجة، لعلها تخدم مصالحهم، لكن لنراجع كل منا خط سيره خلال عقود، ونرى من استمر على قناعته ومن غير جلده حسب الظروف!؟
عندما كنا نكتب كان هو شغف وحب ومعزة لهذا الوطن، ولم نأخذ مالا ولا ريالا لكي ندافع أو نمدح أشخاصا أو جهات، بل كانت قناعة وواجبا!
هذا هو الإعلام.. قناعات وآراء مستقلة تخدم الوطن والمواطن. ليس من الضروري أن تكون مع الموجة، ففي كثير من الأحيان كنا مستقلين عن القطيع، وفي النهاية لا يصح إلا الصحيح.. أيها «المتعيلمون»!