إذا قِيلَ كتيبة، انتقلَ الذهنُ إلى حَقلِ الحَربِ والعَسكَرة، مع أنَّها مُشتقة من (كتب) الذي يُشتَقّ منه الكتاب، والكتابُ ارتبطَ -ذهنيًا- بفعلٍ مغاير للحرب، وقد يُقال بكلّ ما ينقض الحربَ، أو بما يدعو للسلمِ؛ لهذا تزعم المقالةُ أنَّ العربَ عقدوا صلةً بين الكتابةِ والحرب. فكيف يُنسَج تاريخ للكتابة والكتيبة في تحرير نظرةِ العربِ للوجود؟

وربما أهم سؤالٍ يُساعد على النَسجِ هل العربيُّ عندما يَذهبُ للحربِ يَنطلق من المَكانِ ذاته الذي ينطلق منه للكتابة؟ هذا السؤال لم يأتِ عشوائيًا؛ حيث لفظُ كتاب مصدر، ولفظ كتيبة مصدر، وكلاهما مأخوذ من المصدر المجرد (الكَتْب)، لكنَّ الكتابَ مصدر مزيد بحرف، و(الكتيبة) مزيدة بحرفين، لهذا فالكتابةُ -ابتداءً- هي المُقابل للكتيبة، وليس الكتاب. وهنا نتأمل شيئًا مهمًا: لماذا لم ينتهِ لفظُ الكتيبة بمصدر من الجذر ذاته، كما انتهت الكتابة؟ إذ الكتابة سُمّيَ شكلُها الأخير (كتاب)، بينما الكتيبة لا نهايةَ لها من جذرها، إلا أننا حين نعود إلى ماذا يريد العرب بقولهم (كَتَبَ)؛ نجدهم يُشيرون إلى الجمع والضم، أي ضم شيء إلى شيء وجمعه، وهذا يُسوّغ -ابتداءً- بأنَّ الكتيبةَ صارت من جذر (كتب) لمَّا كانَ المرادُ منها تَجمُّع الخيول المتفرقة، والكتابة هي جمعٌ وضمٌ للكلمات والحروف، وهذا يجعل الكتيبةَ تُقابل الكِتابَ مرةً، والكتابة مرةً أخرى، لأنَّ لحظةَ تجميع الخيولِ والعدةِ الحربية هي نَفسُ لحظةِ الكتابة، وحين تتجمَّع الخيولُ والعدة تكون كتيبة، كما صارت الكتابةُ كتابًا، ومن أهم معاني الكتيبة أنَّها «ما جُمِعَ من الجيشِ ولم يَنتشر»، وكأنَّها حين تنتشر سيكون لها اسم آخر، وهذا ما يَجعل الكتابَ -بعد أن ينتشر بحدثٍ عظيم- سِفْرًا؛ لأنَّ الكتابَ حينها أسفرَ عمَّا يحتاج إليه صاحبُه، وشَهَّر مرادَه بالقارئ الذي اختار معنىً محددًا من الكتاب ونشره في ضوء ذلك، كما أنَّ السَّفَر يَجعل المسافِر يَعرف صاحبَه جيدًا، لا لأنه خَبر كلَّ أخلاقِه وخبايا نفسِه، بل لأنَّه أسفَرَ عن أخلاقٍ ما، تلقَّاها الصَّاحبُ على أنَّها هي هذا المُسافر فنشرها، وكما أنَّ المُحَاربَ في الكتيبةِ كانَ له وجه يختلف عن وجهه بعد بدءِ المعركة، فإنَّ ذلك مدعاة إلى تغيّر اسم المجموعة التي تحمله، أو تَّغير اسمه هو، فبعد أن كان جزءًا من كتيبةٍ صار مُحاربًا فذًّا يُشار إليه بالبنان.

تَغيّر اسم الكتابِ إذن، وتَغيّر جذره، وكأنَّ العربَ تُمَرحِل معاركَ الحياةِ بحركةِ الكتابةِ التي ترجوها. فماذا يعني هذا؟ ربما أنَّ جملةَ «كتب اللهُ لي قَدرًا، فالقدر إذن مكتوب» تُوضِح نظرةَ العرب لحركة الكتابة، فهي تتضمن وجودَ كاتب هو الله، ومكتوب هو القدر، ومعانٍ هي الإنسان وما يَصنع في الأرض. وأظنُّ أنَّ أفضلَ ما يُجيبنا عن سؤالِ هذه الحركة هو تاريخ تدوين القرآن، لأنَّ القرآنَ قال - وهو لم يُجمَع بين دفتين بعد: «ذلك الكتاب لا ريب فيه»، فقدَّم اسمَ الكتاب على فعلِ الجمع والضم المباشر، أي أنَّ لفظَ (الكتاب) سيعود على المعنى الكلي للحياة، وما أفعالُ الناس إلا (كتابة) أي جَمع وضمّ للكتاب المكتوب مسبقًا، أي للحياةِ التي لها بداية ونهاية في الكتاب المكنون، وهذا ما تُشير إليه آيةُ: «ما أصابَ من مصيبةٍ في الأرضِ ولا في أنفسكم إلا في كتاب»، والعربُ يَرون أنَّ هذا الكتابَ مُستقلٌ عنهم وليس جزءًا من حركةِ وعيهم، لكن ظَلَّ سؤالٌ يُؤرقِهم وهو كيف للكتابِ أن يَسبق الكتابة؟ كيف لنتيجةِ الحربِ أن تَسبق تَجمُّع الكتيبة؟ هنا سنصل إلى لبِّ المراد وهو السؤال الأول: «لماذا الكتيبة من جذر كَتَبَ»؟ الكتيبة هي الفعلُ المباشر في تغيير الواقع، أي هي ما يُعوَّل عليها في تغيير الكتاب/القدر، ألم يأتِ في القرآن «يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب»؟ وأليس قيل في الحديثِ النبوي: «لا يرد القدر إلا الدعاء»؟ أي أنَّ ثمةَ نافذة مفتوحة للتغيير متعلقة بفعل الأسباب، وهذا ما جعل بعض السلفيين يضعون قِسمًا للقَدر -إضافة على القدر المحتوم- باسم (القَدر المُعلَّق) وكأنَّه وُضِع بين قوسين بانتظارِ أن يُفتَح حين تُفعَل الأسباب، وهذا ما جعل عمر بن الخطاب يقول: «نَفِرُّ من قدر الله إلى قدر الله»، أي من القدر المحتوم إلى القدر المُعلَّق، وهذا - أيضًا - ما جعل الفيلسوف الألماني هيجل يُلاحِظُ أنَّ صورةَ الإسلام تجمع بين المتناقضين (المسألة التجريدية والمسألة الواقعية)، إذن سيكون لفظ (الكتاب) هو المعنى الكلي، وأفعال النَّاسِ هي المعنى الجزئي، ومن ثمَّ فإنَّ الفعل الجزئي يُكتَب -واقعيًا- بالكتاب الأكبر، بين القدر المحتوم والقدر المُعلّق، وهذا هو تاريخ الكتابة عند العرب، وهذا معنى أنَّهم لم يعرفوا الكتابةَ التي هي صورة عن الكلام إلا متأخرًا، ومنه قيل عن النبي أمّي، أي لا يكتب بهذه الطريقة الأخيرة، لكنَّه هو من أسَّس تاريخَ الكتابةِ بمفهوم الكتيبةِ والكتاب.


التفاتة:

معرِضُ الكتابِ هو تجميع دورِ النَّشر وضَمّها إلى بعض لتصير كتيبة، يقودها القارئ الذي يجتمع بالكاتب فيصيرا شخصًا واحدًا تحت منظارِ جيشٍ ما؛ ولهذا يأتي النَّاسُ إليه كتائبَ؛ فهم تجمَّعوا في محفلٍ كبير وصاروا متشابهين بهدفٍ واحد، والأهم أنَّ المَعرِضَ -حين صَار كتيبةً- ضَمَّ مضامين الكتُبِ إلى بعضها، ليصنع رسالتَه الخاصة في مواجهة من يستهدفهم، وهذا ما يجعل لكلِّ معرض دولةٍ شكلًا خاصًا وأهدافًا ضمن غاياتٍ أوسع من الكتاب المفرد، مع أنَّ الكتب هي الكتب لا تتغير من معرض إلى معرض، إنما الذي تغير هو أنها صارت ضمن كتيبة معينة.