على ذلك علّقت عالمةُ الأحياء النباتيّة «ستايسي هارمر» من جامعة كاليفورنيا بالقول: «إنّه لأمرٌ مدهش للغاية. الزهرة الشبيهة بالشمس تتّجه نحو الشمس... هذا يساعدها على إنتاجيّة أفضل». لكنّ هذا لم يكُن نهايةً للأحجيّة بقدر ما كان امتداداً لها. فإذا سلّمنا بأنّ الزهرة تستدير مع حركة قرص الشمس في السماء باحثةً عن المزيد من الدفء والإنتاجيّة، لن يُمكننا تجنّب التساؤل: كيف «علمت» الزهرة مسبقاً أنّ استدارتها ستَجلب لها الدفء والإنتاجيّة حتّى استدارت؟ صحيح أنّ هذه النبتة كائن حيٌّ يتنفّس ويمتصّ ويغتذي، لكن كيف «تَعلم»؟... بل: هل النبات يُدرِك ويَعلَم حقّاً؟
أبحاث ومعلومات
الواقع أنّ مسألة إمكانيّة «إدراك النبات» على الطريقة التي يُدرِك بها المُنتصِب العاقل بقيتْ بعيدةً عن البحث العلمي الجادّ لفترةٍ طويلة، على اعتبار أنّ الشائع يفيد أنّ النبتة لا يُمكن أن «تَعلم». إلّا أنّ ذلك أصبح من الماضي وأنّ الأمر محلّ اهتمام في العقود الأخيرة. وتجلّى الانتباه إلى ذلك مع إصدار الباحث «دانيال شاموفيتز» كتاباً بعنوان «ما تعلمه النباتات» في العام 2012، حظيَ بانتشارٍ واسعٍ ونُقل إلى العديد من اللّغات الحيّة، ثمّ اغتنتْ طبعاتُه اللّاحقة بتنقيحاتٍ واسعة وإضافاتٍ كثيرة بفعل تسارُع وتيرة الاكتشافات العلميّة في عالَم النبات، كما ذكرَ المؤلِّف في مقدّمة طبعته الجديدة.
قال الباحث وسط دهشةٍ عامّة: إنّ «النباتات تستفيد من تركيبتها كما يستفيد الإنسان من حواسّه»... إنّ «زهرة عبّاد الشمس مثلاً «ترى» من دون أن يكون لها عيون، فتتوّجه نحو الشمس، شأنها شأن غيرها في مَملكة النبات. وأضاف... على الرّغم من أنّه ليس للنبتة أنف، لكنها «تشمّ»، بمعنى أنّها تلتقط الروائح المُنبعِثة من جيرانها».
وبالتوازي قالت الباحثة الأستراليّة في علوم ومسالك النبات «مونيكا غاليانو» إنّه «بات معلوماً أنّ النباتات تتفاعل مع الضوء، وأنّها تَستخدِم موادّ كيميائيّة تُنتجها وتَنتشر من حولها لتُتيح لها التواصل في ما بينها، كما هي الحال عند تعرّضها لخطرِ اقتراب الحشرات آكلة الأعشاب على سبيل المثال».
وتحدّثت وكالةُ الأنباء الأستراليّة «آي. آي. بي» عن دراسةٍ أجراها باحثون من جامعة غرب أستراليا، فقالت إنّ «النباتات تتحادث وتتواصَل في ما بينها، وأنّ هذا ليس مجرّد خيالٍ علمي».
أمّا الباحث «أنتوني تريوافاس» العالِم في جامعة «إدنبورغ» البريطانيّة وعضو الأكاديميّة المَلكيّة، فقد أكّد بنتيجة أبحاثٍ طويلة امتدَّت لسنوات، أنّ «النباتات هي أكثر من مجرّد غطاء جميل يُغلّف أرضنا، فهي كائنات حيّة تتواصل في ما بينها وتتذكّر وتُخطِّط وتتّخذ القرارات: إنّها كائنات ذكيّة! ثمّ إنّ الذي يُميّز النبات أنّ له أكثر من دماغ، ليس مجرّد دماغ واحد مثل الإنسان، إنّما أدمغة متعدّدة تتموضع في الجذور».
من هنا ابتدأ عصرٌ جديد بمفاهيم جديدة، وتسارعتِ الأبحاثُ في هذا الموضوع لتأتي بما يتناقض بالكامل مع الأفكار السابقة الشائعة عن النباتات.
فقد جاء في بحثٍ علميّ نشرته المجلّة العلميّة الأميركيّة Journal of Plant Molecular Biology، «أنّ بعض النباتات الاستوائيّة تُصدِر ذبذباتٍ فوق صوتيّة... وقد تمَّ رصْدُها فعلاً وتسجيلها بأجهزة علميّة مختصّة، وتحويلها إلى إشاراتٍ كهربائيّة ــ ضوئيّة بواسطة راسِم الذبذبات (Oscilloscope) فتبيَّنَ أنّها تتردّد لأكثر من مائة مرّة في الثانية الواحدة». وقد اعتُبرت هذه الذبذبات لغةً خاصّة بالنبات.
أمّا عن كيفيّة تواصُل النباتات، فيقول الباحث البريطاني «أنتوني تريوافاس» الذي يَعمل أستاذاً في جامعة أدنبرة، إنّ ذلك «يتمّ من خلال عمليّة كيميائيّة سلسة تَجري داخل النبتة. فالكلمة هنا تخرج على شكل رائحة كيميائيّة تبثّها النبتة، فتتطاير في محيطها لتلتقطها النباتاتُ القريبة التي تَمتلك مُستقبِلاتٍ حسّاسة هي الأخرى، فتفهمها، كما تلتقطها الحشرات أيضاً. وبالطبع لا يلتقط أنفُ الإنسان هذه الروائح».
وهذا ليس كلّ شيء، بل ثمّة ما هو أكثر استفزازاً للمخيّلة. فقد تمكَّن فريقٌ بحثيّ من جامعة طوكيو اليابانيّة من إماطة اللّثام عن «خطأ الظنّ الشائع أنّ النباتات كائنات لا تَمتلك حاسّةَ الشمّ لمجرّد أنّه ليس لديها عضو خاصّ بهذه الحاسّة كالأنف (...) فالنباتات يُمكنها تمييز وتحديد الروائح المُختلفة في ما يُشبه حاسّة الشمّ لدى البشر والحيوانات». ولم يتوقّف الأمر عند هذا الحدّ، إذ «اكتشفَ الفريقُ الكيفيّة التي تؤثِّر بها الروائح على جينات النباتات لتدفَعها إلى سلوكٍ مغاير غير مألوف. إضافة إلى ذلك، فهي قادرة على الرؤية والسمع أيضاً... وهذا في منتهى الغرابة (...) وأنّ الحشرات وبعض الثديّيات تكون قادرةً على سماعها من مسافةٍ قريبة والتفاعُل معها».
وهناك ما هو أكثر غرابة وإدهاشاً ...
فالنباتات تتذوَّق، ليس الموادّ المحيطة بها في الهواء فقط، بل تلك التي تتوفَّر في تُربتِها وماءِ ريّها أيضاً. ثمّ إنّ الأشجار تعمل بطريقةٍ موازية فتُسارِع إلى بثّ فيرموناتٍ (Pheromone) خاصّة لتحذير نظيراتها المُجاورة عندما تتعرّض لهجومٍ من الحشرات الضارّة.
الضوضاء النباتيّة
من جهةٍ موازية، أَظهرت دراسةٌ أخرى حديثة أنّ نبتات البندورة والتبغ والصبّار الشوكي (المتوفّرة جميعها في بلادنا)، هي من النباتات التي «تأكَّد علميّاً»، وبشكلٍ يقينيّ، أنّها تُصدر أصواتاً. وقد أمكن تسجيل تردُّدات فوق صوتيّة لها ولبعض النباتات الأخرى التي خضعتْ للدراسة، تتراوح قوّتُها بين عشرين ومئة كيلو هرتز، تصدرها هذه النباتات لدى تعرّضها لظروفٍ بيئيّة شاذّة أو لظروفِ إجهادٍ قاسية (كأنّها تَطلب النجدة)، ما تعجز الأذنُ البشريّة عن التقاطه.
وعلى خلفيّة هذه الحقائق العلميّة، لا يعود من المُستبعد أن تكون نباتات المنازل مؤهَّلة للاستجابة للموسيقى، فتَفرح وتَزدهر مع الموسيقى الهادئة، وتنكمش لدى سماعها الموسيقى الصاخبة.
وطالما أنّ النباتات تُصدِر أصواتاً، فالعالَم من حولنا مملوءٌ بالضوضاء النباتيّة، أو هذا ما ينبغي أن يكون. ثمّ إنّ هذه الأصوات ليست مجرّد ضجيجٍ عشوائيّ، بل لا بدّ من أنّها رسائل هادفة وتحتوي على معلومات... ويُمكن للبشر بالطبع الاستفادة من هذه المعلومات في حال توفُّر الأدوات المناسبة لالتقاطها وتحليلها لفهمها... مثل أجهزة الاستشعار التي تُنبئ المزارعين عندما تحتاج النباتات إلى الريّ.
وخلصت دراسةٌ أخرى في هذا الصدد إلى أنّ عدد الأصوات التي تَصدر عن النبات تَختلف تبعاً لنوع النبتة والحالة الإجهاديّة التي تعاني منها. فنبتة البندورة مثلاً تُصدر 35 صوتاً في الساعة، مُقارَنةً مع 11 صوتاً في الساعة لنبتةِ التبغ، عندما كانت كلاهما تعاني من العوز المائي.
وعلى الرّغم من هذا القدر من الغرابة، فلا بأس من مُتابعة السير على الطريق الذي شقّه العِلم خلال السنوات القليلة المنصرمة. فحشرة «العثّة» مثلاً تستجيب لأصوات النباتات، بحيث إنّها لن تَضع بيوضها على نباتٍ يُعاني من العوز المائي أو الجفاف، لأنّ بيوضها تحتاج إلى الرطوبة.
وفوق كلّ ما جرى ذكره أَعلنت مجموعةٌ من الباحثين من جامعتَيْ بون وفلورنسا، عن وجود ما يُمكن وصفه بالدّماغ النباتي في تركيبةِ جذرِ نبتةِ الذرة. ويؤكِّد الباحث «فرانتيسك بالوسكا» من جامعة بون أنّه وفريقه تمكّنوا من اكتشاف «أنشطة كهربائيّة في جذور النبات، كما وجدوا أنّ التركيبة البيولوجيّة للخلايا النباتيّة شبيهة بتركيبة الدماغ في مَملكة الحيوان».
هذا كلّه جدير بأن يُفاجئنا كثيراً نحن الذين نَشأنا وتربَّينا على مفاهيم مُغايِرة تماماً بخصوص النبات. فمنذ العصر الإغريقي، وربّما قبله، كانت الفكرة المُتوارَثة والمُتعارَف عليها في المُجتمعات البشريّة تقول إنّ النباتات غبيّة... وكائنات أوّليّة... تأتي في مرحلة حائرة بين الجماد والحيوان. وهناك مَن وَصَفها بأنّها «أشياء حيّة». اليوم جاءت الأبحاث العلميّة لتُكذِّب ذلك كلّه.
فالنباتات ليست كائناتٍ غبيّة، وذكاؤها يكمن في جذورها. كذلك بدأ العُلماء مؤخّراً في اكتشاف نوعٍ من مراكز التحكُّم داخل الجذور، يعمل بطريقةٍ مُشابهة للجهاز العصبيّ الحيوانيّ، ويَنقل البيانات عبر إشاراتٍ كهربائيّة تتحرّك بين الجذور والسيقان والأوراق.
ترى ألا يدعونا هذا كلّه إلى إعادة تقييم علاقاتنا وسلوكنا مع النبات؟
أخيراً، وبعدما ثبتَ علميّاً أنّ النباتات تَشعر وتَسمع وتتواصَل، فسيكون النباتيّون أمام مشكلة كبيرة. إنّهم لا يأكلون اللّحم ومُنتجات الحيوانات لأنّها تُسبِّب الألم لهذه الكائنات، وسوف لن يأكلوا النباتات... فماذا سيأكلون إذاً؟
وطالما لا يوجد في العالَم منظّماتٌ ولا قوانين لحماية التمر والموز والفجل، ولا هيئات تُدافِع عن حقوق البروكلي والعنّاب، ولا قوانين تَردَع مَن يقطف ثمرة التفّاح في غير أوانها بوضعه في السجن سنة لارتكابه جريمة بحقّ الشجرة الأمّ... فهل ستكون هذه تهمة لنا بالتمييز ضدّ النبات؟!
*كاتب من لبنان
* ينشر بالتزامن مع دورية أفق الإلكترونية.