تنشب الكارثة مخالبها الحادة في جسد الشعب العربي السوري، وتمتد ألسنة اللهب وقذائف المدفعية وشفرات الشبيحة نحو أطفال ونساء وعجزة لا يُرى منهم غير جثامين متفحمة وسط حالة استرخاء عربي وإسلامي، وفي ظل تواطؤ دولي يرمي تحويل الكارثة إلى ورقة عمل تمهد لتقاسم نفوذ على حساب الأرواح والدماء.

وفيما تنبئ مجريات الأحداث عن تفاعلات انقسام دولي جديد، يذكر بما كان عليه الحال إبان الحرب الباردة التي أعقبت الحرب العالمية الثانية، إلاَّ أن وتائر الصراع في تحالفات القرن الواحد والعشرين تنحو في تسارع أحداثها وحدة انفعالاتها نحو أسوأ الاحتمالات وأكثرها ضراوة وقسوة.

لهذا نسأل: أين تقع سوريا وشعبها المفجوع من أجندات النزاع الدولي المكرس على إعادة رسم خارطة النفوذ في منطقة الشرق الأوسط؟

قديما كانت دمشق إحدى بؤر الأيديولوجيا المفعمة بنشوة البروليتاريا وعنفوان اليسار القومي المبشر بالعدالة في مواجهة الرأسمالية والقوى الإقطاعية، أما اليوم فإن نظام الأسد لم يعد يتمتع بذلك الغطاء القيمي؛ أي إنه لم يعد جزءا من منظومة دولية ذات خصائص مختلفة عن المنظومة الرأسمالية.

أواخر الشهر الماضي كان الرئيس الروسي بوتين ضيفا على الكيان الصهيوني الذي زج به إلى المسجد الأقصى ليتمتم بالدعاء أن تفلح جهوده المخلصة في أداء الدور الإسرائيلي المرسوم له تجاه بشار الأسد..

ومثلت الزيارة بتوقيتها الدقيق رسالة كاشفة حول الجهة المستفيدة من الموقف الروسي والحريصة على بقاء المستبد التابع.

لقد اختلفت منهجيه الصراع التقليدي، وصارت روسيا والصين وحلفاؤهما أكثر عناية بوضع وتطوير قواعد وأسس النظام الرأسمالي، ولم يبق لديهما فائض زاهد إنساني تغدقانه على القضايا العادلة والشعوب المقهورة، كما لم يعد من اهتماماتهما دعم الثورات ولا مؤازرة نضالات الإنسان في سبيل التحرر والانعتاق.

ولا يكاد المرء يعثر على فروق جوهرية بين الولايات المتحدة وبريطانيا، الداعمتين الرئيستين للكيان الصهيوني الغاصب من جهة، وبين شراكة الصين وروسيا في مساندة مذابح الأسد، وهي تحصد المئات من الضحايا السوريين العزل على مدى عام دون انقطاع.

ولئن كان ظاهر العملة الواحدة غير خلفيتها إلا أن هذا لا يغير شيئا من مستوى قيمتها في أسواق التداول.

إننا إزاء عالم تبدو فيه المثاليات والقيم الإنسانية أشبه برغوة الصابون وفقاعات العولمة، فحيث يكون النفوذ أو حيث تكمن مصالح شركات تصنيع السلاح، هناك فقط تحل المبادئ والمثل.

يخطئ الذين يقولون، أو بالأحرى يتأولون الموقف الروسي الصيني المساند للأسد بوصف ذلك اعتراضا على سياسات البيت الأبيض، وإمعانا في التضليل سيقال أيضاً: إن إسقاط نظام دمشق يمثل متطلبا إسرائيليا محضا، وتلك تقولات هدفها التغطية على مجازر النظام.. إذ متى كان الأسد وجيشه العرمرم مصدر قلق لدى تل أبيب؟

ولو أن هذا التفسير كان صحيحا، ما رأينا المقاتلات الجوية الإسرائيلية تحلق فوق رأس سفاح دمشق، وهو لا يحير جوابا كما شاهدناها تقصف أهدافا سورية، من غير أن تعترضها مقاتلة واحدة، دونك وضمير الأسد الرابض في مخدعه محصنا من التأنيب والوخز على امتداد حقبة الاحتلال الإسرائيلي للأراضي السورية وهي على مرمى حجر من معسكراته!

كذلك، وبنفس القدر من خطل التأويلات، ذهاب بعض آخر لاعتبار بواعث الموقف الأميركي المناهض للنظام السوري بوصفها سجية إنسانية نابعة من عواطف جياشة يحركها شعور أخلاقي إزاء جرائم الأسد التي لا تعد ولا تحد.

لو كان الدافع إنسانيا والمنطلق أخلاقيا ما احتاجت دول الغرب كل هذا القدر من الدبلوماسية المطاطية ولا غدت أميركا مجرد سلحفاة كليلة الحيلة غير قادرة على وقف انتصارات بشار وكوارثه ضد مواطنيه.

ثمة أمثلة عديدة ضربتها الولايات المتحدة حيال أحداث عنف أقل بكثير مما تشهده المدن والضواحي السورية، ومع ذلك لم ينتظر الرئيس الأميركي موافقة الأمم المتحدة ريثما يتخذ قرارا أحادي الجانب. إنه يتخذ قراراته بسرعة الضوء متى تعلق الأمر بمصلحة حيوية من المصالح الأميركية.

في بلدان مختلفة، ذوات سيادة، تفرد طائرات البنتاجون أجنحتها وتصيب وتقتل عشرات السكان في هذا البلد أو ذاك تحت طائلة الشبهة، ولقد بات معلوما أن معظم العمليات الأميركية المنفذة بذريعة الإرهاب تمت وفق معلومات مضللة، وأدت إلى سقوط عشرات القتلى من الأبرياء، فما الذي أعجزها عن عمل تدابير تحول دون إرهاب السيد بشار الأسد؟

لهذا تبرز صورة ودور الانتهازية الرأسمالية المتخففة من القيم الإنسانية النبيلة، ويأتي النموذج الأميركي مكتمل الدلالة على بشاعة استخدام جثامين الشعوب في سياق المناورات السياسية، وهو ذات الحال بالنسبة للدور الانتهازي الذي تلعبه روسيا والصين، لا لقناعتها بنظام الأسد، ولكن لعائد أرباحها من الحكومة الإيرانية.