لم يكُن بالخبر السّار آنذاك للمُفاوِضين وللوفود الصغيرة التي لا تَملك دائماً الوسائل اللّازمة لتمديد فترة إقامتها. لكنّ مندوبةً من جُزر مارشال Marshall Islands قالت إنّهم «باقون حتّى النهاية» («مؤتمر المناخ يتجاوز الموعد المحدَّد لاختتامه»، فرانس 24، شوهد في: 13/12/2023، في: https://cutt.us/bSIjs)، وكذلك كان لأنّ الحاجة إلى التحوُّل نحو الطّاقة النظيفة والرَّفع من القدرة على التكيُّف مع تأثيرات المناخ أصبحت ضرورةً ملحّة. فالمناخ، في الوقت الحالي، يمرّ بتغيّراتٍ مُعقّدة ومُخيفة، على المستويَيْن المحلّي والدولي، من حيث الآثار الواقعة والمتوقَّعة، فاتحةً الطريق أمام انشغالٍ متجدّد: إلى أين نَسير؟
لن يخلو أيّ جوابٍ حتماً من الإشارةِ إلى أَثَرِ النشاط الإنساني على النُّظم البيئيّة، سواء من خلال تطويع عناصر الطبيعة واستخدامها والانتفاع منها إلى أقصى الحدود المُمكنة، أم من خلال إلحاق الضرر بمظاهر الطبيعة ومواردها من جهة أخرى ممّا ينطوي، بحدّ ذاته، على سلسلة من التهديدات التي لم تتبيّنها المُجتمعات البشريّة وتَكشف جسامتَها إلّا منذ عقود. وعلى الرّغم من أنَّ المُجتمع الدّولي راكَمَ مجموعةً من المُكتسبات التي تُجسِّد في مُجملها الرّغبة في منْع النتائج السلبيّة لهذه التهديدات، والالتزام بضمان تمتُّع الأشخاص المُتضرّرين منها، ولاسيّما مَن يعيش أوضاعاً هشّة، بإمكانيّة الوصول إلى التعويضات ووسائل التكيُّف الفعّالة لعَيش حياةٍ كريمة، أَظهرت المُمارَسة الدوليّة أنَّ الجهود المبذولة، على أهمّيتها، تظلّ دون النتائج المطلوبة، بفعل استمراريّة التأثُّر بعَلاقات القوّة والنفوذ وما يتولَّد عنها من غموضٍ واختلافٍ وتناقُض. ولعلّ المُتابِع لهذه المحدوديّة، يُدرِك الدَّور الذي يُمكن أن تلعبه وسائل الإعلام الجادّة في إبراز المسؤوليّات الفرديّة والجماعيّة من جهة الاضْطلاع بها أو التقصير فيها، علاوة على التنبيه إلى عواقب التغيُّرات المناخيّة التي يكون أثرها أكثر حِدَّةً على شرائح السكّان التي تواجِه أوضاعاً صعبة أصلاً، على الرّغم من تأثير هذه الانعكاسات على الأفراد واﻟﻤُﺠتمعات في شتّى أنحاء العالَم، ولاسيّما أنّ الثورة الاتّصاليّة في سياق العولمة سهَّلت انتشارَ الوعي البيئي النقدي وتغلغله في الثقافات المحليّة وفي نسيج المُجتمع المدني، كما أنّ الأزمات الماليّة والاقتصاديّة وتناقص كمّيّة الموارد الطبيعيّة واتّساع الفوارق الاجتماعيّة من منظورٍ اقتصادي وبيئي غذّى جميعُها انتشارَ تلك الثقافة وتجذيرَها في المُجتمع.
أوّلاً: تزايُد مخاطر التغيُّرات المناخيّة ومؤتمر المناخ الـ 28 في دبي
«إلى أولئك الذين عارضوا الإشارة الواضحة إلى التخلُّص التدريجي من الوقود الأحفوري في مسودّة مؤتمر الأطراف الثامن والعشرين، أريد أن أقول إنّ التخلّص التدريجي منه هو أمر لا مفرّ منه سواء شاؤوا ذلك أم لا. دعونا نأمل ألّا يحدث ذلك بعد فوات الأوان». هكذا، وخلال اختتام مؤتمر المناخ الـ 28 في دبي، يوم الأربعاء 13 ديسمبر 2023، علَّق الأمينُ العامّ للأُمم المتّحدة أنطونيو جوتيريش على اعتماد الوثيقة الختاميّة، التي وافقت بموجبها الدولُ المُشارِكة في مؤتمر الأُمم المتّحدة السنوي للمناخ في دبي، على خارطة طريقٍ «للتحوّل بعيداً عن الوقود الأحفوري»، وهي المرّة الأولى من نوعها في مؤتمرٍ للأُمم المتّحدة للمناخ. في حديث مع أخبار الأُمم المتّحدة، قال هارجيت سينغ، رئيس الاستراتيجيّة السياسيّة العالَميّة لدى شبكة العمل المناخي الدوليّة، إنّه كان يتوقَّع نصّاً أوّليّاً «أقوى بكثير، ولكنّ عبارة ‹التخلُّص التدريجي من الوقود الأحفوري› قد اختفت تماماً الآن ... ونحن كمجتمعٍ مدني نرفض النصّ». وعلى الرّغم ممّا تمّ التوصُّل إليه، أو حتّى ما لم يتمّ تبنّيه في الاتّفاق النهائي للمؤتمر، فإنّ العمل المناخي الهادف سيبقى أكثر إلحاحاً من أيّ وقتٍ مضى. فما الذي تمَّ إقراره استجابةً لهذه الدعوات والمَخاوف؟
لا بدّ من الإشارة أوّلاً إلى أنّه خلال رئاسة مؤتمر الأطراف، دخل المؤتمرُ التاريخَ منذ يومه الأوّل، لحظة تفعيل صندوق الخسائر والأضرار، حيث تعّهدت الدول بتقديم أكثر من 700 مليون دولار لصندوق التمويل الجديد، وهي مساهمات سيكون لها أثرٌ كبير على حياة المُجتمعات الفقيرة والمتضرّرة من الكوارث المناخيّة. بالنسبة إلى منظّمة السلام الأخضر العالميّة (غرينبيس Greenpeace)، كان مؤتمر الأطراف الحالي الأضخم على الإطلاق، إذ تمّ تسجيل حضور أكثر من مئة ألف شخص على امتداد أسبوعَيْن من مُفاوضات المناخ. وبصرف النّظر عن الآمال بانتهائها بشكلٍ مبكّر، جرى تمديد المفاوضات النهائيّة هذا العام أيضاً حتّى وقتٍ متأخّر من اللّيل، لينتهي الحدث بعد يومٍ واحد من الموعد المُقرَّر كما سبق الذكر. «الاندفاع نحو خطّ النهاية اختُتم باعترافٍ نهائي بالحاجة إلى الانتقال بعيداً عن الوقود الأحفوري. لكنّ المُجتمعات التي تقف في الخطوط الأماميّة المُواجِهة لأزمة المناخ تحتاج إلى أكثر من ذلك» («اختتام مؤتمر الأطراف COP28 بعد أسبوعَين حافلين بالأحداث»، غرينبيس). يبدو جليّاً أنّ كلّ الفاعلين الدوليّين والمحليّين معنيّون بتعزيز اليقظة والقدرة على المُقاوَمة، وبخاصّة جمعيّات المُجتمع المدني والمقاولات الكبرى والمؤسّسات الإعلاميّة، من ضمن عمليّة تعبئة شاملة، من أجل إدماج المخاطر المناخيّة في عمليّتَيْ تصوُّر الاستراتيجيّات القطاعيّة والتخطيط على المديَيْن المتوسّط والبعيد من جهة أولى، ومن أجل إعادة النَّظر من منظورٍ دينامي في توجُّهات السياسات القطاعيّة بحسب تطوُّر أنواع هشاشة المجالات، من جهةٍ ثانية.
ثانياً: دَور الإعلام العربيّ في الارتقاء بالتعاطي مع تغيُّر المناخ
تُعَدّ مسألة دَور الإعلام في إثارة الوعي بتغيُّر المناخ معقّدة، وتحتاج إلى دراساتٍ معمَّقة لرصْدِ أنماط وسائل الإعلام الأكثر تأثيراً على المواطنين، وذلك طبقاً للفئات العمريّة والأوضاع الاجتماعيّة والاقتصاديّة. عمليّاً، يبدو أنّ تغطيتها إعلاميّاً، مُقارَنةً بقضايا أخرى، لا تزال موسميّة تتصاعَد وتيرتُها بالتزامن مع الكوارث والأزمات المحليّة والإقليميّة والدوليّة ذات الصلة، ويَغلب عليها طابع التناوُل العلمي التقليدي، من دون طرْحٍ دقيق وموضوعي للأبعاد الاجتماعيّة - الاقتصاديّة لتغيُّر المناخ وتأثيراته المباشرة على جودة الحياة، وهو ما يعني بقاء شريحة واسعة من الفئات المَعنيّة بعيدة عن القضيّة وتداعياتها.
غربيّاً، لم تتوقّف مؤسّساتُ ووسائلُ الإعلام، عموماً، عن تسليط الضوء على هذه التأثيرات البليغة المُهمّة بالنسبة إلى الناس جميعاً، ويُمكن رصْدُها ومُلاحظتُها في الكثير من الأفلام السينمائيّة والوثائقيّة والبرامج التلفزيونيّة ونشرات الأخبار، والمقالات والأبحاث، لأنَّ الإعلام أصبح يُدرِك بعد مسارٍ طويلٍ من التعبئة والنضال حَجْمَ تداعيات التغيُّر المناخي ونتائجه المدمّرة، بسبب اكتساب القدرة على الانفتاح على مصادر المعلومات والوصول إليها، والتعاوُن مع مراكز البحوث الخاصّة بهذا الشأن، فضلاً عن مُراعاتها للقيَم الإخباريّة في تحديد أولويّات نشْر الأخبار والموضوعات، وتخصيصها لميزانيّاتٍ ماليّة مهمّة للاستقصاء والبحث. أمّا عربيّاً، فيبدو أنّ العديد من مؤسّسات الإعلام لا تزال تعاني من قيود التبعيّة للحكومات والأحزاب الحاكمة، والجهات التي تموِّلها وتدعمها ماديّاً؛ فهي لا تُعطي أهميّة لهذا الموضوع، وإذا حدثَ واهتمَّت به، يكون هذا الاهتمام بطريقة محدودة جدّاً كأن يظهر في شريط الأخبار أو في نهاية النشرة (حسني رفعت حسني، «قضيّة التغيُّر المناخي في الإعلام العربي»، الجزيرة).
ولأجل تعزيز هذا الاهتمام، أَستحضرُ، من باب الاستئناس ببعض المُمارسات التي من شأنها تطوير عمل رجال الإعلام ونسائه، المُقترحات التي عَرَضَها أحدُ الصحافيّين البيئيّين الأكثر شهرةً وخبرةً في الولايات المتّحدة الأميركيّة، وأقصد أندرو ريفكين Andrew Rivkin المُدير المؤسِّس لمُبادرة الاتّصال والاستدامة الجديدة في معهد الأرض في جامعة كولومبيا، في حوارٍ له مع فريق أخبار الأُمم المتّحدة، بخصوص بعض الطرق أو بالأحرى القواعد التي يُمكن لوسائل الإعلام بمختلف أشكالها أن تدعم من خلالها العمل المناخي وتُحارِب المعلومات المُضلِّلة.
تحفيز صنّاع القرار
في كتيّب للصحافيّين، تَذكر منظّمة الأُمم المتّحدة للتربية والعِلم والثقافة (اليونسكو) أنّه خلافاً للاعتقاد السائد، فإنّ المناخ هو قضيّة مليئة بالمَخاوف غير المباشرة التي يُمكن أن تبيع الصحفَ وتَجذبَ جماهيرَ جديدةً عبر الإنترنت وفي المطبوعات وعلى الشاشات. لذلك، لا يحتاج الصحافيّون لاستخدام كلمة «المناخ» في عناوينهم لإخبار قصص جيّدة عن تغيُّر المناخ. يوضح ريفكين هذه الفكرة بقوله: «أدير برنامجاً حيث أحاول، من بين أمور أخرى، إقناعَ الناس بالتوقُّف والتمعُّن في الكلمات التي يستخدمونها. عندما تستخدم كلمة «الانهيار» للحديث عن جبلٍ جليدي، هل تفكِّر في النطاق الزمني للقرون العديدة التي يفكّر فيها العُلماء، أم أنّك تفكِّر في الانهيار مثلما حدثَ عندما سقطت [الأبراج] في مركز التجارة العالمي؟ من المهمّ حقّاً أن نكون أكثر وضوحاً عندما نختار الكلمات وكيف يُمكن أن تنقلَ انطباعاً خاطئاً» («خمس طُرق يُمكن من خلالها لوسائل الإعلام والصحافيّين دعْم العمل المناخي والتصدّي للمعلومات المضلّلة»، أخبار الأُمم المتّحدة).
إلى جانب هذه القاعدة، تُجمِع أبحاثٌ عدّة على ضرورة ارتكاز الرسالة الإعلاميّة على قِيَم ومفاهيم كونيّة تشكِّل الأساس والمَرجع لعملها، وتتمحور تحديداً حول العدالة والحريّة والمُساواة وحقوق الإنسان، عِلما بأنَّ هذه القيَم تشكِّل كلّاً متكاملاً لا يُمكن تجزئتُهُ، أو القبول ببعض أبعاده واتّجاهاته ورفْض البعض الآخر، مع الإشارة إلى أنَّ أهميّتها تكمن في حاجة الفاعل البيئي إليها لتوجيه فعله وخطابه اللّذَيْن يجب أن يتقاطعا معها. لذلك، توجد العدالة الإيكولوجيّة دائماً في جوهر العدالة الاجتماعيّة، ويتوقَّع أن تتحوّل اللّامساواة الاجتماعيّة باستمرارٍ إلى لا مساواةٍ أيكولوجيّة، إذ حيثما يوجد إقصاءٌ اجتماعي وتهميشٌ سياسي، توجد هشاشةٌ أيكولوجيّة ومشكلاتٌ صحيّة أكبر.
وينقل إلينا ريفكين أنّه كان في الماضي يأتي بالميكروفون ليُجري مقابلة مع المُختصّين في أحد المجالات ذات الصلة بالتغيُّرات المناخيّة الجليديّة. لكنْ على نحوٍ متزايد، بدأنا نُشاهد أمثلةً لعُلماءٍ وخبراء «يأتون إلى غُرف الأخبار ويُساعدون في بناء نماذج سواء في ما يتعلّق بكوفيد أم المناخ». ولا تزال قضايا وقصص كثيرة دوليّة ووطنيّة بإمكانها أن تساعد في تحفيز صنّاع القرار المحليّين وفي البلدان الغنيّة على العمل بالتضامن وبمسؤوليّة مع الأفراد والجماعات المعرَّضة أو المُحتمَل تعرُّضها لآثار المناخ.
ترسيخ العمل التعاوني
عود على بدء، غادرَ المُشاركون المؤتمرَ السنوي للمناخ المُنعقد في دبي السنة الماضية وهُم على يقينٍ بأنّ مهمّتهم لم تنتهِ بعد على الرّغم من الآمال التي فتحها، وما من شكّ في أنّ اللّقاء القادم في أذربيجان سيُشكِّل مناسبة جديدة للتقييم الجادّ والتطلُّع الدائم إلى تعزيز فُرص الصمود في المستقبل. من ضمن هذا الأُفق، من المُهمّ التذكير بأنّ البلدان العربيّة لا تُواجِه تحدّيات متشابكة ومتنامية في سياق التأثير الواقع والمتوقَّع لتغيُّر المناخ بالتفاعُل مع عواملَ أخرى ديمغرافيّة واقتصاديّة وثقافيّة فحسب، وإنّما ينتظرها المصير نفسه في حال لم توضع التنمية على مَسارٍ أكثر صلابة وإنصافاً واستدامة. ثمّة دلائل قويّة على أنّ ضرورة تضافُر الجهود للرفع من درجات الصمود، والوعي بأنّ أيّ استراتيجيّة للتكيُّف لتقليص آثار التغيُّر البيئي على النُّظم الإيكولوجيّة مهدَّدة بالتعثُّر إذا فشلت في إشراك الجميع في ترسيخ العمل التعاوني بين مُدبّري الشأن العامّ والعلماء والخبراء والإعلاميّين والجمعيّات النشيطة في مُعالَجة الموضوع بوصفه أحد الحلول التي يجب مُراعاتها. لكن قَبل ذلك، ثمّة حاجة ماسّة يتعيَّن التنبيه إليها، وهي ضرورة إعادة النّظر، في أسرع وقت، في الطريقة التي توظِّف بها المؤسّساتُ الإعلاميّة، المملوكة للدولة أو الخواص، إمكانيّاتها ومَواردها، لحثّ المسؤولين الحكوميّين ومختلف الفاعلين الاقتصاديّين والاجتماعيّين والمدنيّين على مُعالَجة مخاطر التغيُّرات المناخيّة.
*أكاديمي مغربيّ
* ينشر بالتزامن مع نشرة أفق الإلكترونية.