في مُنتَصفِ القَرن الثاني ولِد رجلٌ سُمِّي يحيى بن زياد الكُوفيّ، ومع تَقادم الزمنِ عَرفه النَّاسُ بيحيى الفَرَّاء؛ لأنَّه كانَ (يَفري الكلام)، وفَري الكلامِ يعني إصلاحه بعد طولِ سِقام، وقد يتبادر إلى الذهنِ أنَّ هذا الفَرَّاء لا يُسقِم الكلامَ، كالمُصلِح الذي يُظنّ أنه ليس بفاسد، ولكن سبق للفراء أن دخلَ على هارون الرشيد فلحن، فتعجَّب الرشيد، فقال الفَرّاءُ «إذا تَحفّظتُ لم ألحن، وإذا رجعتُ إلى الطَبعِ لحنت، فطَبع البَدوي الإعراب، وطبع الحضري اللحن». التَحفّظ الذي أراده الفَرَّاء هو لحظةُ تركيزه على الكلام، تلك اللحظة التي تُبعده عن طبيعته الحضرية، ويَهمّ المقالةُ -من هذا- أن تُركّز على شخصيةِ الفرَّاء التي التقطت لحظةً (ذاتيّة) تُميّز بين صياغةٍ ذكيّة، وصياغةٍ مُشَوّشة. والصياغةُ المُشوشة هي التي لم تَثبت على أرضٍ جميلةٍ بديعة، أو هي التي لم يستطع صاحبُها أن يجعلها درةً مدهشة، أو هي التي تَدَّعي أنَّ المَعدنَ الرخيصَ ذَهبٌ بلسانٍ كلسانِ طفلٍ يُكسِّر الألعاب، وأسلوبٍ كأسلوبِ الضَّائع في الضباب.

الفَرَّاء له حكاياتٌ كثيرةٌ تُشير إلى عَقلِه المُتوقِّد، فهو يَعرف كيفَ يُولِّد المَعاني المُتَعدِّدة من باب اللغةِ، ثم كيفَ يَصنع من الصياغةِ دررًا؛ كأنَّها (حجر الفلاسفة) الذي يُحَوِّل المعادنَ الخسيسة إلى نفيسة، وليس أدلَّ على هذا التَّوليد من حكايتِه مع فَقيهٍ من أصحابِ أبي حنيفة، حين جَعلَ أفعالَ الصَّلاةِ تُطابق أفعالَ اللغة، وبيانُ ذلك أنَّ هذا الفقيه سَألَ الفَّراء سؤالًا في فلسفةِ الفقه: «ماذا لو سها المُصَلّي وهو يسجد سجودَ السَهو»؟ فقال الفَرَّاء طالما ليس للتَّصغير تصغير، وليس للتَّمام تمام، فإذن ليس على السَّاهي وهو يسجد للسهو سجود.

هذه الشخصية الفَذّة نُسِبَت إليها مقولة تَليق بذكائِها، وهي «أموتُ وفي نفسي شيء من حتَّى»، لأنَّ (حتّى) حرفٌ غريب في تأثيره بما بعده فهو يرفع وينصب ويخفض، ولما قال الفَراء (وفي نفسي)، فإنَّ النفس تُحيل إلى ما هو أعمق من النحو، إنها تُحيل إلى (الأفعال البشرية)، وإذا علمنا أنَّ هذه الأفعال الثَّلاثة -الرفع والنصب والخفض- هي فوضى سلوكنا في الحياة، ونتائج تصرفاتنا مع الآخرين، وخلاصة ما تؤول به إلينا النظريات، أدركنا شيئًا من إشكالية (حتى)، فهي لا تَحسم وقوعَ الأشياء ولا تُسهّل الصعب؛ كي يَطمئن الإنسان، وهي تأتي لابتداءِ الغاية وتأتي لانتهائها، فتجمَع النقيضين مما يُربِك الإنسان، ففي المثال المعروف: «أكل زيدٌ السمكةَ حتى رأسها» -بناءً على ابتداءِ الغاية وانتهائها- هل أكل الرأسَ أم لا؟، للإجابةِ سيضطر الإنسانُ إلى النَّظر المُباشر لسمكةِ زيد هل الرأس بقي أم أُكِل، ولكن ستظل الفجوة موجودة إذا بَعُد زمانُنا أو مكاننا عن زمانِ ومكان آكلِ السمكة، وهنا يأتي عبدالقاهر الجرجاني محاولًا سدَّ الثغرةِ بالنَظم الذي يعني (النظم وِفْقَ معانٍ محددة)، والنَّظمُ دعوة للإنسان ليركّز في الوصول إلى المعنى الحقيقي، أليس الفرّاء اهتمَّ بالتركيز كما في قصته مع هارون الرشيد؟. ومع كل هذا الإشكال أذكر أنَّ أحدَ أساتذةِ النحو في كلية اللغة العربية عام 2002 قال لنا في قاعةِ الدَّرسِ بطمأنينة: «لا تموتوا كالفرّاء، فالمسألة سهلة». والفارق الشَّاسع بين هذا الأستاذ النَّحوي وأستاذ اللغة الفَرَّاء، يُوضِّح علاقةَ اللغةِ بالتقعيدِ المُباشر، أو بالتَّفلسفِ، فيروي أبو العبَّاس ثعلب الكوفي أنَّ الفَرَّاء «كان يتفلسف في تأليفاته وتصنيفاته (حتى) يسلك في ألفاظِه كَلامَ الفلاسفة»، وجملةُ ثعلب لا يُمكِن أن تَمرّ مرورَ الكرام، إذ أريدُ أن أزرع منها (حتّى) في حقل الفلسفة، ليكون الثمر هو استصعاب طرح الأسئلة، إذ كثير من المتفلسفين يقولون إنَّ الفلسفةَ هي الأسئلة التي لا نَعرف إجابتَها، أو هي القدرةُ على طرحِ الأسئلة، لكنَّ الإشكالَ أنَّ كُلَّ هذا الكلام يستبطِن أنَّ طرحَ الأسئلةِ (بدقّة) شيءٌ سهل، وإنَّما الصعب هو الإجابة، وفي حوارٍ مع الفيلسوفة الإنجليزية إيريس مردوخ عام 1978، كانت تَحوم حولَ رؤى الفلاسفةِ عن وجودِ السُؤال وتشكيله بسهولة، لكنَّ الموضوعَ كله -في نظرها- هو غياب الجَواب، حتى (فلتَت) منها جملةٌ في الحوار، أعدُّها من أهمِّ ما قالته، وهي أنَّ الفلسفةَ هي «الأسئلة التي لا نعرف كيف نَصوغها بدقّة»، وقد جاءت الجملةُ عَرَضًا لتعريفِ الفَلسفةِ، وهذا التَّعريفُ فعليًا لا تُؤمن به إيريس -كما هو واضح من حوارها- وفي الوقتِ نفسِه هو تعريفٌ لا واعٍ منها للفلسفة، وهذا يعني أنَّ هناك معاني مُشْكِلة موجودة في الذهنِ البشري، لا نعرف كيفَ نصُوغها بدقة، مما يجعل الفلسفةَ محاولة دائمة للوصولِ إلى الصيغِ الدقيقةِ لانكشافِ المعنى الوجودي، وما دام المعنى لم يُقيَّد جاءت صعوبة أن نقع على الصياغة الدقيقة، وهذا ما جعل عبد القاهر الجرجاني يَضيقُ ذرعًا بنُقَّادِ العرب الذين فصلوا بين اللفظِ والمعنى، وجعلوا المعنى مفتوحا، فوقعوا في المشكلةِ المذكورة آنفا في (أكل زيد السمكة حتى رأسها)، وجعله هذا القلق يُخصِّصُ المعاني بــ(معاني النحو) تحديدًا، لكي يكونَ للصّياغةِ نهاية ودقّة، وهذا ما يجعل الفلسفةَ مشكلة عند الجرجاني؛ فهي تفتح الباب على مصراعيه، وتجعل الإنسان -وهو ينحو نحو الوجود- قزمًا، وسنتذكَّر أنَّ الفَّراء كان يتفلسف، أي أنَّه فتح البابَ للمعاني وأطلقَ سراحَها، وهذا ما جعله يُشير إلى ما في نفسه من (حتى)؛ ليقول إنَّ النحو هو أن تنحو نحو الوجود، والوجود هو الموجود الذي يفعل الرفع والنصب والخفض.


التفاتة:

رأت الفيلسوفة إيريس مردوخ أنَّ الفلسفةَ تكمن في حبّ الاستطلاع المطلق للغرابة التي تُحيط بما هو عادي وطبيعي في حياتنا. أليس (حتى) حرفًا يَظهر في السطور كشيءٍ مألوف، لكنَّه -في الآنِ نفسه- يُفجّر فينا السؤالَ والقلقَ، ويُطلِق لسانَنا نحو اكتشاف الغريب؟