لمن يلومني... لم أكن أراه كبقية البشر، عملاق فكيف بين التراب غاب واندثر بأرض غريبة لا نعرفها ولا على أي خريطة لها أثر، وهل كنت كبقية البشر؟! أقرأ نعم أكتب نعم، لكنها مجرد كلمات أشكل بها لوحات أسميتها الحياة، خطها قلمي حروفا لا بل سهاما لتدمي القلوب وتأسر الأرواح، وأسميتها نثرا، جردتها من ألوانها، وكسوتها سوادا وأحزانا، كلمات كنت أبثها آهات ألم، زفرات عذاب تخرج من الأعماق مع لهيب الروح... تريح، تخدر، لدقائق أم للحظات؟ لم أكن أعرف الزمن... قلبي أدماه غدر البشر لذكرى من أطلقني بين البشر، كان عقلي يرفض ويثور على النسيان... غرقت في جحيم ظلام عالمي، هذا إن جهلتم هو ثمن طلب الإبداع ثمن القهر، دين علي ورثته مع اسمي بحكم القدر... فأتذكر وأعود للاحتراق بنيران الغضب... إلى رماد تحولت فماذا يفيد الرماد؟! إن هبت نسائم المحبة ولامست روحي ارتجفت وتناثرت هنا وهناك..... هل أنا كنت مثلهم بشرا؟ أنظر في المرآة فلا أرى شيئا، أنا من دونه بلا هوية، غريبة أمر بين الناس شبحا، فلا راحة كنت أجد، ولا على أرض كان لي أثر، أهرب إلى عالمي وأكتب، فالكتابة كانت وما زالت لي بمثابة قناة أتواصل من خلالها مع نفسي قبل غيري، أدخل إلى الأعماق لأبحث وألملم الشتات من مشاعري، هنا غضب وهنا يأس وهناك ضياع، وأترجمها كلمات، أخط أحرفها سوداء على أوراق بيضاء، أبيض على أسود، هكذا كنت حتى صحوت يوما ومن بين أدمعي رأيت، ارتج قلبي وتوقف ثم عاد للحياة لنظام نبض غير الذي أشقاه، فانتعش عقلي وتحرك فكري، حينها تعرفت ولأول مرة على ما كانت النرجسية تخفيه، دروس من الحياة تجلت ووضحت، فتعلمت.
تعلمت أن الحياة لن تقف لأحزاني ولن تحتفل لأفراحي، فكل في ملكوت فضائه يسبح، وإنني إن أردت أن أصل لقمة جبلي، لأنتشي بلحظات نجاحي وأترك أثرا كما فعل لغيره أبي - رحمه الله - ليستفيد منه من معي ومن سيأتي من بعدي، يجب أن أواجه ما يعتبره الكثيرون مستحيلا، وأنا جاهلة إن كنت سأنجح أم لا، ولكن يجب أن أستمر وأجاهد حتى وإن شعرت بأنني لن أستطيع أن أتابع وإن أدمت الصخور أناملي واستحوذ التسلق على جل طاقتي وصرخت أعضائي تسترحم: كفى لن نقدر على المزيد، فإن فشلت أو هلكت فلن أنتهي سوى راضية لأنني على الأقل حاولت ولم أتجمد في مكاني باكية، ولكن إن نجحت فسأعطي الأمل لغيري كي يثابر ليصل إلى القمم العالية.
تعلمت أن أقدّر ما أنعم علي الله سبحانه وتعالى، وأنه إن تحطم جسر في طريقي فما زال هنالك نهر يجري، وما زال في الحياة فرص، وإن تحطم حلم أو خاب أمل فسأحلم بغيره وأستعيد الأمل، وإن أضعت يوما طريقي فسأجعل من وطني الهدف والمنارة يشدني لأعود لمجتمعي لهويتي لأصلي وجذوري، ومن أجله سأستمر في البحث والتعلم، وإن فشلت ووقعت فسأقف من جديد وأنفض الغبار، أرفع رأسي وأتابع بخطوات واثقة على أرض الله أسبح بعظمته أتقرب إليه بالمجهود والعمل والتعرف على معجزاته بدءا من داخلي إلى أبعد مخلوقاته، فمقابل كل حرب هنالك سلام، وكل كراهية هنالك محبة، وكل داء هنالك دواء، وكل همجية هنالك إنسانية، ومن خلال كل دمعة أذرفها سأرى ابتسامة طفل، نقاء قلب، وطهارة نفس.
تعلمت أنه مهما حاولنا أن نحدد أمرًا ما، فسوف نجد أن هنالك اختلافا في وجهات النظر، تعلمت أنه بالاحترام المتبادل والتقدير والرقي في التعامل وعدم التراجع على الرغم من مصادفة الرفض والتجمد، ستخلق أرضية أنطلق منها مع أصحاب الرأي الآخر، تعلمت أن أتحكم بمشاعري وأعصابي ولا أدعها تتحكم بي فقد أفقد ما بنيته في سنوات بكلمة بحركة أو بموقف، تعلمت كيف أسامح وبدأت بنفسي وسامحت وتقبلت، تعلمت أنه دائما سأجد ما أعطيه حتى ولو كلمة، تعلمت ألا أحكم قبل أن أبحث وأدرس وأحلل، تعلمت أن عقلي ملكي ولن أسمح لأحد بأن يفكر ويقرر عني، أو يمنعني من حقي في تنمية مهاراته واستخدامه حتى أتمكن من أن أعمر ما أورثني إياه رب العزة بالمحبة والتفاعل، بالعلم والتعاون.
تعلمت أن أصغي لذلك الصوت داخل رأسي ولا أكتم أجراسه عندما تدق لتحذرني، وتعلمت أنني قد لا أستطيع أن أنقذ العالم وأحل قضايا الجوع والفقر والتناحر بين الشعوب، ولكنني أستطيع أن أحدد نقطة البداية وأقذف بها في بحيرة الحياة من حولي، وأترك الباقي لمن بعدي، وتعلمت أنه على الرغم من أن الوحدة راحة لكن الجماعة قوة، تعلمت أن أكون كما أريد لا كما يريد الغير، تعلمت أن الابتسامة ضياء والمحبة نور، تعلمت أن النسيان رحمة والتذكر وفاء، وتعلمت أن العطاء قوة والبخل ضعف ورياء، تعلمت أن التكيف مهارة والجمود غباء واستعلاء، تعلمت أن الرجولة كلمة، موقف، ووفاء، وتعلمت أن الأنوثة كرامة، عاطفة، وذكاء، وتعلمت أن أتسلح بالشجاعة، أن أعقل وأتوكل، أن أرفع رأسي وأخطو بكل ثقة نحو المستقبل، قد يأتي فجري أو لا يأتي، ولكنني بإيماني بحبي بعطائي، بإذن ربي راضية.
وأنت يا من تحملت ووصلت معي إلى هنا، فكر قبل أن تجيب، من دروس الحياة هل تعلمت؟