من المقالات المثيرة للانتباه التي قرأتها مؤخرا، ورغبت أن أطرحها هنا نموذجا على شيوع الفهم الخاطئ للفلسفة بين جموع الكُتاب العرب. في هذه المقالة ينسب الكاتب تخلف العرب والمسلمين لسببين: أولهما رفض استعمال الطابعة، والثاني رفض طريق الفيلسوف ابن رشد وتفضيل طريق الفقيه ابن تيمية. هكذا وبكل بساطة نحن لم نتقدم لأننا رفضنا الفلسفة والفلاسفة، ولم نستخدم الطابعة في بداية ظهورها، وفضلنا طريق ابن تيمية على ابن رشد.

مثل هذه التفسيرات السطحية للتقدم والتأخر واختزالها في خيارات بسيطة ومحددة وواضحة المعالم، تعكس جهلا متفشيا بالفلاسفة وتاريخ الفلسفة، وتعكس كذلك جهلا بحقيقة ابن رشد. ابن رشد القاضي والفقيه المالكي لا ينتمي للفلسفة ولا يصنف ضمن فلاسفة الإسلام وليس له انتماء للفلسفة لا من قريب أو بعيد. ولو دققنا النظر جيدا في كتابه «تهافت التهافت» لوجدنا أنه خصم عنيد للفلسفة والفلاسفة، ويمكن اعتبار كتابه هجوما لاذعا على فلاسفة الإسلام كابن سينا والفارابي. ابن رشد وابن تيمية يحملان الموقف ذاته من الفلسفة، وكلاهما يرفض عقائد الفلاسفة. علاقة ابن رشد بالفلسفة سياسية محضة، لا تتجاوز مستوى الشرح والدراسة لأغراض سياسية، وهذا لا يجعل منه فيلسوفا. كما أن شرح تراث وعقائد البوذية والهندوسية والتخصص في دراستهما لا يجعل من الشارح أو الدارس بوذيا أو هندوسيا. ابن رشد يتعاطى مع الفلسفة باعتبارها تراثا أجنبيا يجب على المثقف وصانع القرار دراسته وفهمه من جميع النواحي قبل أن يقرر طريقة التعامل معه.

والمضحك في المقالة اختزال مفهوم التطور وتجديد الخطاب في طريقين واضحين: إما طريق ابن رشد وإما طريق ابن تيمية. وينسب الفضل في تطور الحضارة الغربية في اختيارهم الصحيح لطريق ابن رشد، طريق الفلسفة والفلاسفة. وكأن الكاتب يقول إن تراث اليونان الديني هو سبيلنا للتطور التقني في العصر الحديث. وإن تراث اليونان الديني أرقى من تراث بقية الشعوب، أرقى من تراث الصين والهند وبلاد فارس وبلاد الرافدين. وتجديد الخطاب الذي يقوم على مبدأ تفضيل ثقافة على ثقافة أخرى أو تراث على تراث آخر لا يمكن أن يكون تجديدا معتبرا وجديرا بالاحترام.


ندرك جيدا، أن الحضارة الغربية أصبحت النموذج الذي تسعى كل الشعوب إلى تنظيم نفسها على مثاله، وأنها صارت مهيمنة، ما جعل كثيرا من شعوب العالم بمختلف ثقافاتها تقبل عليها وتحاول تقليدها، فهناك أعداد متزايدة من الأفراد تفضل ارتداء الملابس الغربية وغالب العلامات التجارية الشائعة ذات مصدر غربي، والناس اليوم أصبحوا يعيشون في منازل ذات طراز غربي. ومما لا شك فيه أن الجامعات في أنحاء العالم كافة تسير نحو اتباع المعايير الغربية في التعليم. وهنا يأتي السؤال الجدير بالطرح: لماذا تقدمت حضارة الغرب على بقية الحضارات كحضارة الصين والهند وفارس، وهيمنت على الشرق والغرب. هل لأن الأوروبيين أكثر اطلاعا من الشعوب الأخرى، أم هناك فرق ثقافي غامض أو صفات جينية غير معروفة أهلتهم للتفوق التقني؟

هل السر يكمن في الفلسفة أو للموقع الجغرافي أم المناخ اللطيف والبارد للقارة العجوز، أم أن الأوروبيين محظوظون عندما عبروا جزر الكاريبي الملائمة لزراعة قصب السكر الغني بالسعرات الحرارية التي منحتهم الطاقة الكافية للإبداع. أسئلة كثيرة ومتشعبة لا تؤدي إلى إجابة واضحة لإماطة اللثام عن السر الكامن وراء تقدم الحضارة الغربية. دعونا نقول إن ابن تيمية ليست له علاقة بالقضية لأنه لا يوجد تفسير تاريخي واضح للتفوق الغربي. وغالب المؤرخين الغربيين المعتبرين عجزوا عن تحديد أسباب مفهومة للتطور الغربي، فقصة صعود الغرب ظلت عند المؤرخين الغربيين اللغز الأكثر إثارة للتحدي، حتى أن بعضهم ينسب الفضل للحظ والأقدار السعيدة.

هناك مراحل متتالية وأزمنة طويلة مرت بها أوروبا حتى تنتقل من درجة الانحطاط إلى أقصى درجات التقدم العلمي، ولا توجد طرق واضحة يمكن تتبعها تاريخيا لفهم حدوث هذا الانقلاب وكيف بدأ وكيف استمر. هناك عناصر مدنية معقدة ومتداخلة ثقافيا ودينيا وتاريخيا دامت أزمنة طويلة قادت تجاه التقدم العلمي الحديث. فالأمم لا تستطيع تغيير مسيرتها الحضارية دفعة واحدة عن طريق اختيار طريق ابن رشد أو طريق ابن تيمية. أو تفضيل تعاليم أفلاطون على تعاليم كونفوشيوس.