يعتقد البعض أن الحرية هي «فعل الفرد ما يريد بشكل مطلق». ويعتقد البعض الآخر أن الحرية هي «اللا مسؤولية». بمعنى أن الإنسان إذا كان حرًا يفعل ما يشاء، ومن حقه ألا يلتزم بشيء، ويستطيع أن يقول ما يشاء وقت ما يريد بالطريقة التي يرغبها. بينما الحرية أعمق من ذلك بكثير. الحرية فيها من النظام ما يجعلها تحمل مسؤولية وأخلاقًا وانضباطًا سلوكيًا يدخل الإنسان في دائرة «الكائن الحر» دون أن يتحول إلى «كائن بيولوجي» يفعل ما يشاء بلا نظام.

لو بدأنا بسؤال تأملي: هل نستطيع أن نعتبر الحيوان «كائنا حرًا»؟ ما دام أنه يفعل ما يشاء وقت ما يريد بالطريقة التي تناسبه. بالتأكيد لا نستطيع أن نصفه بـ«الكائن الحر» في هذه الحالة. لأن الحرية مفهوم يحتاج إلى وعي أولًا ثم إلى إرادة حرة تتبعها مسؤولية. بمعنى أن الحيوان لا يملك حق الاختيار بإرادة حرة. الحيوان لا يستطيع أن يصوم عن الأكل بإرادته أو يقرر التحرر من قوانين المجموعة البيولوجية.

بناءً على ذلك، تصبح الحرية عملية معرفية منتظمة يتميز بها الإدراك الإنساني فقط. تبدأ بامتلاك الإرادة الحرة يتبعها تحمل المسؤولية. بمعنى أن الإنسان إذا اختار شيئًا -بإرادته الحرة- فسوف يتحمل عواقبه، وهو المسؤول وحده عن نتائج اختياره. فمثلًا، لو اختار أن يخالف نظام المرور فإنه وحده المحاسب عن مخالفة ذلك النظام. لأنه أولًا، يملك إرادة حرة تجعله المحاسب والمسؤول عن أي عواقب ممكنة. بينما لو نظرنا إلى الحيوان، فإنه لو خالف الأنظمة المرورية فهو غير محاسب ولا مسؤول عن أي عواقب لتلك المخالفة، لأنه لا يملك إرادة حرة ولا وعيًا بالنظام. بالتالي، الحرية تحمل معها ضمنًا إدراكًا معرفيًا منتظمًا يبدأ بالإرادة الحرة وينتهي بالمسؤولية.


هذا التسلسل ينقلنا إلى وضع الحرية في «منزلة بين المنزلتين». الحرية منزلة متوسطة بين «السجن» و«الغابة». حيث إن الإنسان الذي يملك إرادة ولا يستطيع ممارستها يعتبر في منزلة «السجن». والإنسان الذي يمتلك إرادة ويمارسها بعبثية بلا نظام يعتبر في منزلة «الغابة». الذي يحقق التوازن بين منزلة «السجن» ومنزلة «الغابة» هو المسؤولية. عندما يكون الإنسان مسؤولًا عن كل ما يقوله ويفعله ويتحمل عواقب ذلك وحده؛ يصبح قادرًا على أن يحقق التوازن بين المنزلتين.

لذلك نجد الإنسان الذي لا يحترم الأنظمة ولا يلتزم بالأخلاق المدنية والاجتماعية يتحول إلى السجن لأنه لا يستحق تلك الحرية. وعندما يزداد وعيه بالمسؤولية يخرج من السجن كي يمارس حياته المدنية المتزنة. وعندما نجد إنسانًا يمارس الحرية المسموحة له بطريقة عبثية غير أخلاقية دون احترام لحدود الآخرين، يصفه الناس بالسلوك الحيواني غير المنضبط. ويوجه إليه النقد الشديد حتى يصل للوعي الذي يجعله يتحمل مسؤولية الحرية التي وهبت له. في هذه الحالة، نجد أن الحرية حالة من الاتزان تتحقق بممارسة المسؤولية وإدراك النظام المعرفي والأخلاقي المترتب عليها.

في العالم الحديث نحتاج كثيرًا إلى الوعي بهذه المنزلة. حيث نجد أن العديد من المجتمعات التي تدعي الحرية المطلقة قد وصلت إلى منزلة «الغابة»، وتحولت الحياة المعيشة إلى ما يقارب حياة «الغابة» بسبب تشوه مفهوم الحرية وممارستها بطريقة مطلقة غير منضبطة، بدعوى أن الإنسان يمتلك حق الحرية المطلقة بلا حدود، وأن ما دون ذلك يعتبر تخلفًا. لكن في الحقيقة منزلة المسؤولية هي الحرية السليمة الواعية التي تميز الإنسان عن الحيوان. الإنسان بلا وعي مسؤول لا يختلف عن الحيوان.