وسوف أحاول في ما يلي الإجابة عن شيء من هذا السؤال.
وسوف أقدم بمقدمة ليست ضرورية في ظرف يسود فيه حسن الظن بالناس ورجاء الخير فيهم، وهي ضرورية في مثل هذا الوقت الذي يُساء فيه لكل من خالف قول غيره سواء أخالف بدليل شرعي أو من منطلق حماس المهم أنه خالف وكفى، فيساق عليه السباب والشتائم وكأنه إنما قال ما قال حباً في العدو أيا كان أصل عداوته، وأياً كان أصل مقالته .
وهذه المقدمة هي: أنني مع أهل غزة في دعائي لهم وعطفي عليهم وحبي إياهم ورجائي أن ينصرهم الله تعالى وهو خير مرتجى.
ثم أقول: إن النصر في المعارك العسكرية أمر لا يخفى، فكل من انتصر يعرف نفسه، وسبب نصره، كما يعرف الأخطاء والخسائر التي وقع فيها؛ وكل من هزم يعرف هزيمته، وسببها، كما يعرف المكاسب التي نالها بجانب هذه الهزيمة، وإن قلت.
ولنضرب لذلك مثالاً واضحاً، وهو معركة أحد التي هُزِم فيها المسلمون، ولم أر كاتباً في السيرة النبوية في ما قرأت قال: إن المسلمين انتصروا فيها، لا ابن إسحاق ولا ابن هشام ولا الواقدي ولا ابن كثير، مع أن المسلمين قَتلوا في هذه المعركة على أرجح الأقوال سبعين رجلاً، وهو العدد نفسه الذي قتله المشركون من المسلمين، ومع أن حَمَلَة لواء المشركين قُتلوا كلُّهم، واحداً تلو واحد، وكانوا سبعة رجال، ووقع اللواء حتى حملته امرأة كافرة من بني كنانة اسمها صواب؛ أي إن المشركين أمضوا حربهم دون لواء، ولم يتقدم الكفار نحو المدينة كحال المنتصرين، بل كانوا هُيَّاباً وغادروا إلى مكة من فورهم، ومع كل ذلك لم يُسم المسلمون منتصرين، ولو على ألسنتهم هم، لأنهم كانوا يعرفون الواقع ولا يتحدثون إلا به.
كما لم يُسَم المسلمون منتصرين ولا منهزمين في غزوة الأحزاب، وإنما قال الله تعالى ﴿يا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا اذكُروا نِعمَةَ اللَّهِ عَلَيكُم إِذ جاءَتكُم جُنودٌ فَأَرسَلنا عَلَيهِم ريحًا وَجُنودًا لَم تَرَوها وَكانَ اللَّهُ بِما تَعمَلونَ بَصيرًا﴾ [الأحزاب: ٩] وقال تعالى: ﴿وَرَدَّ اللَّهُ الَّذينَ كَفَروا بِغَيظِهِم لَم يَنالوا خَيرًا وَكَفَى اللَّهُ المُؤمِنينَ القِتالَ وَكانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزيزًا﴾ [الأحزاب: ٢٥] فالمسلمون في هذه الغزوة وقفوا محامين عن المدينة من وراء الخندق حتى كف الله شر المشركين عنهم.
نعم قد حاموا وقد ابتلوا بموقف العدو وردوا من شاء الدخول منهم إلى المدينة، ولكنهم لم يُسَمَوا منتصرين على المشركين، وإن كانوا قد انتصروا على من والوهم من اليهود ﴿وَأَنزَلَ الَّذينَ ظاهَروهُم مِن أَهلِ الكِتابِ مِن صَياصيهِم وَقَذَفَ في قُلوبِهِمُ الرُّعبَ فَريقًا تَقتُلونَ وَتَأسِرونَ فَريقًا﴾ [الأحزاب: ٢٦] فالنصر وصف الله تعالى حالتهم فيه {فريقاً تقتلون وتأسرون فريقا}.
واستمع إلى قول الله تعالى في آية أخرى ﴿لَقَد نَصَرَكُمُ اللَّهُ في مَواطِنَ كَثيرَةٍ وَيَومَ حُنَينٍ إِذ أَعجَبَتكُم كَثرَتُكُم فَلَم تُغنِ عَنكُم شَيئًا وَضاقَت عَلَيكُمُ الأَرضُ بِما رَحُبَت ثُمَّ وَلَّيتُم مُدبِرينَ﴾ [التوبة: ٢٥] أي إن ضيق الأرض والتولي أو الكف عن القتال يعتبر هزيمة، وقد كُتِبت على المسلمين هذه الهزيمة في أول المعركة، لولا أن الله سلم وأمدهم بالنصر ﴿ثُمَّ أَنزَلَ اللَّهُ سَكينَتَهُ عَلى رَسولِهِ وَعَلَى المُؤمِنينَ وَأَنزَلَ جُنودًا لَم تَرَوها وَعَذَّبَ الَّذينَ كَفَروا وَذلِكَ جَزاءُ الكافِرينَ﴾ [التوبة: ٢٦].
إذن فالنصر العسكري حالة واحدة فقط، وهي أن تجعل مَن أمامك يفر، ولا تجعل له سيطرة عليك وتعمل فيه قتلاً وأسرا، هذا هو النصر كما بينه الله تعالى في كتابه.
لنعد وننظر في ما حدث في غزة بل وفي فلسطين بأسرها، فإننا نجد أهل غزة ليس معهم سلاح سوى سلاح المقاومة، والمقاومة نسأل الله أن ينصرهم وأن يُري عدوهم منهم ما يكره قليلة العدد ليست ظاهرة، وأنا أعلم أنها قد تخرج وتقتل ضابطا هنا وضابطاً هناك، وخمسة هنا وعشرة هناك، لكن النتيجة العامة: أنهم لم ينتصروا، وإن قلنا إنهم انتصروا، فليس النصر بالأقوال، وإنما النصر يُشاهد ويُلمس ويُعَاش، فهل لمسناه وعشناه، أو هل لمسه أهل غزة وعاشوه؟ الواقع يقول: لا، وبعض أصحاب الحماس يقولون: نعم، فمن نُصدق؟ أما أنا فسوف أصدق الواقع، وسوف أبحث عن أسباب الهزيمة وكيف ننتصر، أو كيف ينتصر الفلسطينيون مرة أخرى، فهذه الهزيمة لا تشكل آخر المواقف مع اليهود حتى أقف عندها، بل من النصح لأنفسنا أن نسعى للخروج من هذه الهزيمة بشكل يحفظ ماء وجوهنا ونستطيع به أن نظفر من عدونا بأفضل ما يمكننا أن نظفر به، أما التمادي فليس وراءه إلا مزيدا من الانتكاس؛ ولو أن مصر خضعت للضغط اليهودي لفتحت المعبر، ولخرج كثير من الفلسطينيين من غزة وهذا ما نخشاه، أو أقول: وهذا ما لا نريده .
ولعل بعض المتحمسين يقول: لا، لن يخرج الفلسطينيون، ولو ماتوا فهم أعز وأكرم من أن يخرجوا عن موضع الرباط الذي وضعهم الله فيه، وإنما أنت مستسلم أو متصهين لا تعرف روح المقاومة والجهاد التي جبل الفلسطينيون عليها!
فأقول له: حسناً، وإن قلت ما قلت، فلستَ إلا بعيداً جداً عن حقيقة مصاب الناس وآلامهم، والآن يدخل الشتاء والناس ليس منهم أحد داخل بيته، ولا يوجد ما يوقدون به النار، وهم على أبواب مجاعة أو بالفعل قد دخلوا في دائرة المجاعة، فماذا تقول؟
اليوم وليس غداً يجب أن يسكت جميع من يتكلمون بالصوت المزيف الحاكي لغير الواقع، والمحاصِر والكابِت لكل من يحب الكلام عن الحقيقة، ولا يحب الحقيقة؛ فالحقيقة داء عضال وألم مميت، لكنه يحب الكلام عنها من أجل رفع الصوت بالشكوى للعالم الذي بدأ يستمع لما يقال ويتفاعل معه، فهذه الجموع التي تحتج على الصهاينة في العالم شيء جيد يجب أن نحرص عليه، ولن يبقوا معنا ما دمنا نتحدث عن انتصارنا، بل سوف ينتهي أمرهم قريباً ما دام الحديث عن النصر وكم قتلنا منهم في هذه الظروف، وليس صراخاً مما أصابنا ويصيبنا من الألم والبأس، وإجرام الصهاينة الذي لا حدود له، فلو تحدثنا بالحقيقةِ فقط، الحقيقةِ فقط، فهي التي سوف تكشف للعالم مظلوميتنا، ولا أعني شيئاً من الحقيقة وشيئاً من الغلو في النفس كما هو حاصلٌ الآن، لأن الغلو شر كله ولن نكسب منه شيئاً، فنصير قد قُتِلنا وخسرنا وطننا، وخسرنا حتى ألسنة الناس.