يبرز دخول جلالة الملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود مكة المكرمة، في مثل هذا الشهر الهجري، قبل أكثر من قرن، كحدث مفصلي مهم جمع بين الحكمة السياسية والبُعد الوطني، ليصبح علامة فارقة في مسيرة الدولة السعودية الثالثة.

مكة المكرمة دائمًا هي القلب الروحي للأمة الإسلامية، ومركز حضاري وتاريخي يُمثل قداسة خاصة لجميع المسلمين، ومن هنا كان هدف توحيدها تحت راية وطنية واحدة يتطلب أسلوبًا حكيمًا يعكس احترامًا لحرمة المكان وقدسيته..

رحلة دخول الملك الوالد، والموحد العظيم، لمكة المكرمة، بدأت بتخطيط محكم اتسم بالصبر والحكمة، حيث حرص جلالته -طيب الله ثراه- على تحقيق ذلك الهدف دون أي إضرار بأمن المدينة أو سلامة أهلها؛ فبعد أسابيع من الجهود المتوازنة بين العمليات العسكرية كذا المفاوضات، تهيأت الظروف لدخول مكة في 7 جمادى الأولى 1343هـ، وكان هذا الدخول حدثًا تاريخيًا شهد انضباطًا غير مسبوق من القوات التي التزمت بتعليمات صارمة تعكس احترام القيادة للأماكن المقدسة وأهمية الحفاظ على سلامة سكانها.


لم يكن الهدف من دخول مكة المكرمة مجرد ضم سياسي، بل كان تجسيدًا عمليًا للوحدة الوطنية تحت راية تجمع ولا تفرق، وتوحد ولا تشتت، وحين دخل الملك عبدالعزيز مكة المكرمة، توجه مباشرة إلى الحرم المكي، حيث طاف بالكعبة المشرفة، وسعى بالصفا والمروة، وأدى الصلاة شكرًا لله على تحقيق هذا الإنجاز العظيم، وكانت تلك اللحظات رمزًا روحيًا عميقًا يعكس رؤية جلالة المغفور له، في أن تكون مكة المكرمة التي هي قبلة المسلمين، جزءًا من كيان وطني متماسك يعمل على خدمة الدين والأمة.

لعل من أبرز ما يميز هذا الحدث العظيم هو القيم التي ترسخت من خلاله؛ لقد حمل دخول مكة المكرمة رسالة وطنية واضحة بأن البلاد ستبنى على أسس العدل والأمن والاحترام المتبادل بين أطياف المجتمع كافة، كما أظهر هذا الإنجاز أن القيادة تستطيع تحقيق أهدافها الكبرى بالاعتماد على رؤية متوازنة تجمع بين الحكمة والقوة، وأظهر أيضًا أن دخول مكة كان تتويجًا لمسيرة طويلة من العمل الجاد لبناء كيان وطني موحد، وجاء ليؤكد أن المملكة العربية السعودية ليست مجرد دولة، بل هي مشروع حضاري ينطلق من أقدس بقاع الأرض ليحقق التنمية والاستقرار لشعبها، ويخدم الإسلام والمسلمين في أنحاء العالم كافة.

حدث دخول مكة المكرمة، ليس مجرد ذكرى تاريخية، بل درس خالد للأجيال القادمة في أن الوحدة الوطنية تبدأ من احترام القيم المشتركة، وأن القائد الذي عمل من أجل شعبه ودينه كتب لنا تاريخًا يُخلد في ذاكرة الأمة، وأصبح دخوله مكة المكرمة أنموذجًا للوحدة، ورسالة للعالم بأن المملكة قامت على مبادئ العدل، واستمدت قوتها من إيمانها الراسخ بقدسية رسالتها ودورها التاريخي، وأن هذه الرحلة الملكية الأولى لمكة المكرمة ذات قيمة عليا في بناء الدولة الحديثة، وفي توطيد أواصر الحكم، ويظهر ذلك في البلاغ الملكي المنشور، الذي أوضح أسس الدولة ومنهاج الحكم، الذي نتفيأ ظلاله اليوم ولله الحمد؛ «لا كبير عندي إلا الضعيف حتى آخذ الحق له، ولا ضعيف عندي إلا الظالم حتى آخذ الحق منه».