ففي مقطع له بعنوان «التفريق بين باب النَّصيحة وباب الإنكار» أسهب على يوتيوب بالقول إن باب إنكار المنكر يختلف عن النصيحة، لينتهي فيه إلى عدم التفريق بين الإنكار على الحاكم وعلى آحاد الرعية، ويتمسك بظاهر الحديث: «من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده»، وأساس باب الضَّلالة الذي دخل فيه الخوارج وأمثالهم إنما هو التعلُّق بالظواهر دون الرُّجوع إلى عموم الأدلة المخصصة والمقيِّدة، وعدم الالتفات إلى مقاصد الشَّرع، وإهمال كلام العلماء، وهذا الذي قاله لا زمام له ولا خطام، قال النووي في شرحه على مسلم: «ينبغي للآمر بالمعروف والناهي عن المنكر أن يرفق ليكون أقرب إلى تحصيل المطلوب فقد قال الإمام الشافعي -رضي الله- عنه: من وعظ أخاه سرًا فقد نصحه وزانه، ومن وعظ علانية فقد فضحه وشانه»، فها هو يجعل النصيحة في الأمر والنهي، وعلى طريقة فيصل بن قزار، فإنَّ النووي يخلط ولا يعرف الفرق بين النصيحة وإنكار المنكر!.
قال الشيخ ابن باز: «الإنكار يكون باليد في حق من استطاع ذلك كولاة الأمور والهيئة المختصة بذلك فيما جعل إليها، وأهل الحسبة فيما جعل إليهم، والأمير فيما جعل إليه، والقاضي فيما جعل إليه، والإنسان في بيته مع أولاده وأهل بيته فيما يستطيع، أما من لا يستطيع ذلك أو إذا غيَّره بيده يترتب عليه الفتنة والنزاع والمضاربات فإنه لا يغير بيده»، وهذا من باب عموم الأدلة المقيدة بالاستطاعة، وأنَّ الشرع ينهى عن أعلى المفسدتين متى تزاحمتا.
بل إنَّ فيصل بن قزَّار له مصنَّف بعنوان: «كشف الشُّبهات في مسائل العهد والجهاد» ردَّ فيه على من رفع من جماعات الغلو شعار الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإخراج المشركين من جزيرة العرب فوقعوا في الإرهاب وترويع المجتمعات الإسلامية، وجاء في (ط3) منه، (ص67): «الإخراج منوط بالحاكم لا بآحاد الرعية، كالحدود والجهاد وغير ذلك فلا يَفتئِت عليه فيها»، فما عدا مما بدا؟، فها هو يفرِّق بين الحاكم وآحاد الرعية، أم سيجعل إغلاق المحلات، وإقامة الحدود والتعازير لآحاد الرعية؟ بل إنَّه في الكتاب نفسه قال (ص18): «ترك النبي -صلى الله عليه وسلم- قتل ابن أبي سلول رأس المنافقين، مع كونه قد قال ما يستوجب القتل بوصفه النبي -صلى الله عليه وسلم- بالأذل، وترك أيضًا إقامة حدِّ القذف عليه لما تكلم في عرض عائشة -رضي الله عنها-، وترك قتل ذي الخويصرة لما طعن في عدالته في قسمة غنائم حنين»، ويصف هذا بقوله: «لم تكن مثل هذه السِّياسة في ذلك الوقت جبنًا ولا خورًا ولا خذلانًا للمسلمين، لقاعدة الشريعة الأصيلة وهي احتمال أدنى المفسدتين لدفع أعلاهما»، فإن كان هذا مقررًا عنده فكيف يبيح الإنكار على الولاة؟، وحينها تطول أعناق من يجدون أنَّ مثل تلك السياسة بتعطيل حد من أعظم المنكرات، دون أن تتسع أفهامهم لهذا الذي سبق أن قاله، ثم يقول بعدها لم يتغيَّر؟
بل له مقطع بعنوان: «لا يُشترط التكافؤ في قتال الدفع ولم يزل المسلمون يقاتلون الغزاة على ضعفهم وقلة عدتهم، ولمن التقدير؟»، وقال إنَّ التقدير في ذلك يختلف من واحد لآخر كأنه لا يوجد أهل علم بالمسألة، وكأنَّ المسألة ليست موضوعية بل هي تابعة لآراء المختلفين، ثم قرر بأنَّ الذين يقدِّرون هذا هم أهل البلد أنفسهم فقط، وهذا مما لم يقل به عالم، فتقدير المسائل يكون لأهل العلم ولا يشترط للعلم أن يكون صاحبه من أهل البلد أو لا، وهو نفسه في كتابه المذكور (ص7) قرر القول: «العجب من هؤلاء أنهم يلزمون الأمة على اختلاف الأحوال والأزمنة بالجهاد الذي يترتب عليه إزهاق الأرواح وإتلاف الأموال، حتى لو كان غير مستطاع في وقت من الأوقات، أو في بقعة من البقاع، وهذا نحر للأمة وتدمير لها»، وكل عاقل يتفق معه في هذا، فما باله يجعل التقدير في هذا لجماعة دون أخرى؟، ولمَ يجعل فصيلًا من أهل بلد لو وقعوا في هذا معذورين لا يصح إنكار أهل العلم عليهم خارج الحدود؟، وهذا يظهر أنَّ الهوى يعصف بمن كان يقرر هذا ثم قلب له ظهر المجن، وساوق الدعاية في سوقها، وتحول الكلام في العلم إلى ما يعجب فئات، ويجلب عليه الجلبة من فئات، حتى ترتفع المشاهدات!.