تنعم فرنسا الآن بحكومة إيمانويل ماكرون والتي تُمثل الوسط الليبرالي الأنسب لفرنسا في المرحلة الحالية، بعد تخطي وإبعاد حزب الجبهة الوطنية الفرنسي بزعامة مارين لوبان، التي غيرت اسمه الى اسم التجمع الوطني، في مساعي منها إلى تحسين صورة الحزب الذي وصم بمعاداة السامية.

وبالعودة لتاريخ هذا الحزب فقد كان ظهوره عام 1972 على يد جان لوبان، والد مارين، إذ ظل رئيساً له حتى يناير 2011، ثم تولت لوبان القيادة بعد والدها الذي يتبنى سياسة "هوياتية" تقوم على أساس الهوية والعرق، وأكدت أن موضوع المهاجرين وما يمكن أن يشكلوه من تهديد لفرص التوظيف، إضافة إلى تزايد المسلمين وما يشكلونه من أزمة تمس الأمن الفرنسي، من أهم محاور حزبها، بينما يرى كثير من الأحزاب الوسطية واليسارية في فرنسا أن دعوات اليمين المتطرف تشجع أعمال العنف وتدعو إلى التمييز على أساس الهوية، مما يعيد فرنسا للوراء وهذا ما لا تريده باريس ولا الاتحاد الأوروبي.

حقيقة الأمر أن أوروبا تُعيد نفسها للوراء بالفعل، ليس على صعيد فرنسا فقط، بل في جميع دول الاتحاد الأوروبي، ففي النمسا أثار فوز "حزب الحرية اليميني" النمسوي مخاوف المنتقدين في شأن صعود تيار اليمين المتطرف في أوروبا، إضافة إلى المكاسب الانتخابية التي حققها حزب "البديل من أجل ألمانيا"، وتصدر "حزب أخوة إيطاليا" اليميني المتطرف الذي تتزعمه رئيسة الوزراء جورجيا ميلوني نتائج الانتخابات الأوروبية، وكل هذه الأحزاب تتبنى خطابًا قوميًا متطرفًا ومعاديًا للمهاجرين والأقليات المسلمة، مما سيغير مفهوم الديمقراطية والتعددية في أوروبا، وقد يشكل تهديداً وتعارضاً مع فكرة الاتحاد الأوروبي وسياسته، بخاصة اذا ما سعت الكتل البرلمانية في الاتحاد الأوروبي إلى الانسحاب منه أو تقليص صلاحياته، بعد رفضها مواصلة تقديم دعم مالي لأوكرانيا عبر مواقف سابقة .


من جانب آخر تناقض رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لان سياستها في المحافظة على قوة ومسار الاتحاد الأوروبي عبر إعلانها تنفيذ إستراتيجية الخطط الوطنية بحلول نهاية عام 2024، وتؤكد في اجتماع المفوضية الأخير أن "حزب الشعب الأوروبي" الذي يتألف من أقوى مجموعة سياسية سيوقف وسيتصدى لتمدد اليمينين، ثم قابلت رئيسة الوزراء الإيطالية جورجيا ميلوني وحزبها بحفاوة، وقالت إنها ترى فيها شريكًا مناسبًا مؤيدًا لأوروبا، مما أثار استياء الكتل البرلمانية داخل الاتحاد الأوروبي. وفي الوقت نفسه فإن رئيسة المفوضية الأوروبية تواصل حث مؤسسات الاتحاد الأوروبي على العمل لتوسيع القائمة الحالية لجرائم الاتحاد الأوروبي، لتشمل جرائم الكراهية وخطاب الكراهية، وبالعودة لفرنسا فقد دانت المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان في الـ 21 من ديسمبر (كانون الأول) 2022 المرشح للرئاسة في فرنسا إريك زمور بتهمة بالتحريض على الكراهية الدينية في فرنسا، وذلك بعد تصريحاته خلال مناظرة تلفزيونية عام 2016، وذكر فيها أن المسلمين يجب أن يختاروا بين الإسلام أو فرنسا، وعلى رغم أن فرنسا تضم نحو 6 ملايين مُسلم، يسهمون في الاقتصاد والصناعة، لكن الأعمال المناهضة للمسلمين في ازدياد.

من ناحية أخرى نجد أن استمرار صعود اليمين في الانتخابات الأوروبية هو استمرار لنسق سابق خلال الأعوام الأخيرة، تدفعه أسباب اقتصادية خلفتها جائحة "كوفيد-19"، وازدياد أعداد المهاجرين الذين سيكون لوجودهم تأثير ديموغرافي في أوروبا، إلا أن هناك إغفالاً لحاجة القارة العجوز إلى قوى عاملة تعزز نمو اقتصادها المتراجع، كما أنها بحاجة إلى تعزيز مجالات التعاون والثقة بين دول الاتحاد في الرؤية والأهداف الديمقراطية التي طالما نادى بها، وتعزيز الانفتاح التجاري مع دول خارج الاتحاد بغية استمرار ثقلها الإستراتيجي.

إن التحديات الاقتصادية والاجتماعية التي تواجهها دول الاتحاد الأوروبي تدل على أن مسيرة الاتحاد تتجه للتحول نحو نظام جديد يختلف كلية عن السابق، مما يعني نهاية منطقة اليورو وربما تفكك التكتل القاري للاتحاد الأوروبي، ويؤكد ذلك تعالي أصوات "حزب البديل من أجل ألمانيا" الذي يدعو إلى خروج ألمانيا من الاتحاد الأوروبي على غرار "بريكست".

ومع التغيير الحاصل داخل أروقة أوروبا بصعود اليمين المتطرف وعودة الرئيس دونالد ترمب لرئاسة الولايات المتحدة، يتجه الاتحاد الأوروبي نحو منعطف سياسي مُختلف تعززه مطالبات اليمين المتطرف القومية، والذي يرى أن المسألة الأوكرانية ليست أولوية، وأنها ومجرد أداة استنزاف اقتصادي لدول الأعضاء، إضافة إلى أنهم في مواجهة يتبنى سياسة تجعل من "أمريكا أولاً"، وفي نهاية الأمر ربما يتعين على الاتحاد الأوروبي مواجهة عدد من الأمور، وأولها احتمال مغادرة الولايات المتحدة حلف الشمال الأطلسي، أو في الأقل اتخاذ سياسة عدم الالتزام بمواصلة توفير المساعدات لأوكرانيا الذي تعهد به الرئيس السابق جو بايدن ويرفضها ترمب الآن، وفرض رسوم جمركية على الصادرات الأوروبية، ربما تكون مُضاعفة، كعقوبات في شأن مسألة "الضرائب الرقمية"، وبالتالي يتعين على الاتحاد الأوروبي اتخاذ إستراتيجيات عدة منها التخلي عن التدابير الدفاعية غير المجدية لحماية مكانة الاتحاد من دون الحاجة إلى الولايات المتحدة، والتوصل لحل تجاري معها، أو القبول باتفاق سلام مع روسيا، وتخلي الاتحاد عن مبادرات انضمام أوكرانيا إليه، مع الاقتناع بالأحزاب القومية الصاعدة.