من الممكن فهم حماسة العرب خلال الحرب العالمية الثانية لهتلر، فهم إما تحت الاحتلال البريطاني والفرنسي أو الانتداب في أخف الأحوال، وقد بدا أن انتصار هتلر ودول المحور في الحرب هو الطريقة الوحيدة للتخلص من البريطانيين والفرنسيين. كانت هتافاتهم تؤسلم هتلر: "الله حيّ. الله حيّ. الحاج محمد هتلر جاي" (مذكرات أمين الحسيني)، ورغم الصورة الكاريكاتورية المروّعة في نعت هتلر بـ"الحاج محمد"، فإن توجهاتهم تبقى مفهومة خاصة إذا افترضنا جهلهم بالفلسفة النازية وتطبيقاتها. أما ما لا يمكن فهمه فضلاً عن تقبّله، فهو أن يظل التعاطف العربي مع هتلر يتناسل إلى هذا اليوم، بذرائع كثيرة.
هناك مستويان من التعاطف المعاصر مع هتلر: التعاطف الشعبي المأسور بمشكلات الواقع، يتعاطف مع هتلر مأخوذاً بفكرة أن يوجد من هو أقوى من اليهود، ويتعاطف معه كأحد أشكال الافتتان السرّي بالديكتاتوريات عموماً، هتلر، ستالين، ماو؛ التي تبدو كعناوين للإنجاز والبناء والانضباط بأيّ ثمن. المستوى الآخر من التعاطف هو الأكثر أهمية، وهو مديح النازية الذي يحاول أن يأخذ بُعداً ثقافياً، علموياً، أن يظهر كموقفٍ نقدي من المعرفة والتاريخ، مستنداً إلى مَقولة "التاريخ يكتبه المنتصرون"، وبانياً عليها مواقفاً إن لم تكن متعاطفة صراحة مع هتلر، فإنها تُشكك في الصورة الأيقونية له، دون هدفٍ واضح من هذا التشكيك. لا يحمل هذا الموقف من العلموية إلا شكلاً فقيراً رثاً، أما العلمية فتنعدم فيه شكلاً وموضوعاً.
هذا لأن رافعي شعار "التاريخ يكتبه المنتصرون" لا يتكلفون عناء البحث عن حقيقة هتلر في التاريخ الذي لم يكتبه المنتصرون، وفي التاريخ الذي كتبهُ مفكرون لكلّ منهم مشروعهُ الـمُعترف به في نقد المعرفة والتاريخ ومُسلـّماتهما، أي إنهم من خارج ذهنية الغرب الاستعماري المنتصر. سأكتفي هنا بخمسة نماذج فقط. ففي موضوع تبرئة هتلر من الإبادة الجماعية لليهود، يعتقد (إدوارد سعيد) أنه من الحماقة إنكار المحرقة، بينما يُسلـّم بها ويُدينها في كتاباته كلّ من (تودوروف) و(هوبزباوم)، سعيد وتودوروف لكل منهما مشروعه في نقد الاستشراق والفكر الاستعماري، أما هوبزباوم فمُؤرّخ يساري. الموضوع الآخر هو تبرئة هتلر من معاداة الساميّة (التي تشمل العرب) وحصرها في اليهود، بل هناك شطحات طريفة تقرّب هتلر من الإسلام لا العرب فقط فتقول إنه لم يكن مدخناً ولا متعاطياً للكحول، وكان يستدعي علماء المسلمين ليسمع منهم سِيَر الصحابة، بل إنه نجاشيّ العصر الحديث. هذه التبرئة لا يمكنها أن تصمد أمام استعراض لمنطلقات الفلسفة النازية، فـ(عبدالوهاب المسيري) في كتابه حول العلمانية وموسوعته حول اليهودية، يرى في النازية ذروة النموذج المادّي العلماني، مرجعيتها العليا هي العلم، وغايتها المنفعة المادّية، وهذا النموذج المادّي الشرس لم يكن ليتآلف مع الأديان الأوروبية فضلاً عن مركب الإسلام والعروبة. أخيراً هناك تاريخ لم يكتبه المنتصر وهو مذكرات الحاج – الحاج الحقيقي هذه المرة! – (محمد أمين الحسيني) مفتي القدس، الذي أعياه الفرار من الإنجليز حتى لاذ بدول المحور وبقي في برلين خلال الحرب العالمية الثانية، ويظهر في عدد من الصور مع هتلر وهملر التي يوظفها المتعاطفون لصالح مديح النازية، بينما الحسيني ذاته يقول في مذكراته إن هتلر لم يكن يدّعي الحبّ للعرب كما يفعل الإنجليز، ولم يبال بشيء سوى مصلحة ألمانيا، هذا فضلاً عن شكوك الحسيني في صدق وعود هتلر للعرب وارتباكه أمام تناقض أقوال ومواقف دول المحور (كان موسوليني يستقبل الحسيني بحفاوة ويعده بدعم استقلال البلاد العربية في نفس الوقت الذي كانت إيطاليا تحتل فيه ليبيا!).
ما الفائدة التي يمكن جنيها من التعاطف مع هتلر؟ عملياً، توجد أبحاث إسرائيلية متخصصة في إثبات العلاقة بين النازية والإسلام (عبر شخصية أمين الحسيني والمُجنّدين المسلمين في الجيش الألماني) وستُسعدهم أي تأكيدات انتحاريّة على هذه العلاقة. أما نظرياً، فإن التركيز على هتلر الفرد وعلاقته بالمسلمين واليهود، يُغيّب القضية الأهمّ وهي شمولية النظام النازي ونموذجية هتلر كقائد مستبد، يجرف الوعي ويحول الاستبداد والشمولية إلى مسائل ثانوية يمكن التسامح معها ما دام المستبد كارهاً لليهود محباً للمسلمين، وكُل المستبّدين العرب كارهون لليهود محبون للمسلمين. من ناحية أخرى، ينطلق المروّجون للتعاطف مع هتلر من انتماء عميق للهوية العربية الإسلامية بسماتها التقليدية الرافضة لإخضاع المعرفة الإسلامية للنقد إلا في القضايا الثانوية، لذا توقعهم مقولة الموقف النقدي من "التاريخ الذي يكتبه المنتصرون" في مأزق، فالتاريخ الإسلامي كتبه منتصرون، بينما موقفهم الدفاعيّ التقليديّ يبدي حساسية شديدة تجاه المواقف النقدية من التاريخ الإسلامي مثلاً. يساعد مديح النازية ورفض تاريخ المنتصرين في فتح مُتنفسٍ إضافي للتعبير عن رفض الواقع أو عن العداء الآيديولوجي للغرب بما في ذلك تاريخه وأيقوناته، أيقوناته الشريرة التي تتحول نكاية فيه إلى وجوه ملائكية في اصطناعٍ رمزيّ للتضادّ. وعبر التعاطف مع هتلر يتحول التاريخ في وعينا الذاتيّ إلى مشهدٍ خرافيّ، ترتدي فيه الوجوه أقنعة ضدّ حقيقتها، ويغطي الوجه الخيّر قناع شرّير في تضادّ درامي حادّ، وتتمّ إزاحة القناع في مفاجآت صاعقة واكتشاف الحقيقة عبر الحدس وحده (وإن تلبّس لباس العلموية). تفقد المعرفة التاريخية عقلانيتها ويتحول التاريخ إلى كُلّ هلاميّ مُتداخل، بلا مركز، بلا حقيقة ثابتة، وعبر هذا العالم الخرافي، الدرامي، الهلامي، المتحوّل؛ يمكن إنكار أي حقيقة تاريخية وإثبات أيّ وهم مرغوب، كما يفعل الحشاشون عندما يصنعون العالم الذي يريدونه في مخيلتهم. كما يفعل الدراويش وهم يتطوّحون بالله حيّ. الله حيّ... "الحاج محمد هتلر جاي".