ولذلك، فالفواصل القديمة، والمسلم بها بين النقد والإبداع لا تنطبق على ما كتبه، وقاله فوكو، كما أنها لا تنطبق على مباحث نيتشه، ولا على مذكرات السجن الغرامشي، ولا على مصنفات بارت بعامة، ولا على عزف غلين غولد وأدائه الشفهي، ولا هي تنطبق على مقاطع أدورنو النظرية، أو مقاطع سيرته الذاتية، ولا على أعمال جون بيرغرا بوليز أوغودار. وهذا لا يعني بأية حال من الأحوال، مثلا، أن كتابات فوكو في التاريخ تعوزها الدقة، ولكن المقصود، مثلها في ذلك مثل أعمال من ذكرت أنفًا، أنها في شكلها، وموضوعها، تتطلب انتباهًا رئيسًا باعتبارها أداءً آنيًا واعيًا، وجامعًا لعدة أشكال أدبية، وزاخرًا بالمعرفة والاستعارات والابتكار، وهكذا يتكرر عدد من الموضوعات في أعمال فوكو، من البداية إلى النهاية، برغم أن لتطوره الفكري ثلاث مراحل مستقلة على الأقل لنبدأ بموضوعات سهل فهمها إن نظرنا إليها ككوكبة من الأفكار، لا كأشياء خامدة، إن كل ما كتبه وبحثه فوكو يتسم بسلسلة مستمرة من التعارضات حاول أن يصفها في اركيولوجيته الشهيرة، وفي علم أنسابه النيتشوي. ويبدو وكأنه ينظر، منذ البداية إلى الحياة الاجتماعية الأوروبية باعتبارها صراعًا بين كل ما هو هامشي ومتجاوز ومختلف من ناحية، وبين كل ما هو مقبول وطبيعي واجتماعي ومطابق، من ناحية أخرى.
وتتمخض عن هذا الصراع مواقف مختلفة، تتطور فيما بعد لتصبح مؤسسات للتقويم والقهر تتشكل منها المعرفة، وكثيرًا ما لجأ فوكو في تصوير ذلك إلى استعارات ترتبط بالمخاض، وبعلم الأحياء في نظرته للأمور، وهكذا ينشأ المستوصف، والسجن، وتنشأ مستشفيات الأمراض العقلية، والمؤسسات الطبية، وعلم العقوبات، وفقه التقنين، وهي بدورها تتمخض عن المقاومة التي تحدث تغييرًا في هذه المؤسسات، فتتحول هذه المستشفيات وهذه السجون إلى مصانع تنتج المرض والانحراف، وهي نظرة سوداء، ولكنها ثاقبة، عبر عنها فوكو في مرحلة متقدمة من عمره.
ويستطرد فوكو فيقول إن السلطة تتغلغل في جانبي السلسلة، في المؤسسات والعلوم، وهي كشكل من أشكال الضغط التمردي الجاذب تتسلل إلى المجموعات والأفراد المحكوم عليهم بالسجن وبإنتاج المعرفة - أي بين المجانين، والحالمين، والجامعين والمتنيين، والشعراء، والمنبوذين، والبلهاء.
وهكذا أقام فوكو بينه وبين المعرفة موقفًا متشابكًا ومتضاربًا، ويجدر بنا هنا أن نشير، بإيجاز، إلى المراحل الثلاث لتطوره، ففي كبريات أعماله المبكرة والجنون والحضارة، (1961- ترجم إلى الإنجليزية في العام 1995، وفي نظام الأشياء 1996- ترجم إلى الإنجليزية في العام 1970)، والعلاقة التقريبية في العنوان والنصوص بين التراجم الإنجليزية والأصول الفرنسية، هي خير علامة على عدم انتظام التراجم الإنجليزية لفوكو.
ترى الباحث المتحمس الصارم في سعة اطلاعه، ينقب عن الوثائق، ويسطو على السجلات، وبعيدًا عن قراءة رواسخ النصوص ليزيل غوامضها، وفي المرحلة الثانية مرحلة وأركيولوجيا المعرفة (1999 - ترجم إلى الإنجليزية في العام 1972، وفي مقال اللغة 1970- ترجم الى الإنجليزية في العام 1971)، يقف بمنأى عن المعرفة، وينسج آلية منتظمة ليفعل بالمعرفة ما تفعله المعرفة بمادتها.
وفي هذه المرحلة، أيضًا، يقوم فوكو بما يشبه تفكيك المعرفة إلى أجزائها، ليعيد ترتيبها بمصطلحاته هو فيزخر نثره بكلمات مثل «سجلات، ومقال»، و«بيان، ووظيفة سردية»، وليس في ذلك رغبة فرنسية مسلطة في التصنيف الدقيق، وإنما فيه دليل على رغبة فوكو في كبح عدائه الوليد للمعرفة، باعتبارها شكلا من أشكال السجن الفكري الشفاف، وفيه أيضا محاولة من جانبه لتحويل هذا العداء الوليد إلى شيء منتج.
وأخيرًا نرى في عمق أعماق أعمال فوكو، تلك الفكرة التي تتجسد في أشكال مختلفة، بيد أنها توحي دائمًا بشعور الغيرية و«الغيرية»، عند فوكو هي قوة وشعورًا هي شيء يعكسه، ويشكله فوكو في أعماله في محولات تبدو لانهائية، وفوكو، كما قلت يبدو على مستوى واضح وكأنه يكتب عن الانحراف والمنحرفين في صراعهم مع المجتمع.
ويبدو مثل هذا الاهتمام ملتويًا وغامضًا، وإن كان يفسر العديد مما يتعلق بكتابات فوكو، فلا يمكن للقارئ وللكاتب أن يشعرا بالألفة إزاء كتاباته، فتراه يتميز بقوة جسدية، وهو زاخر بالتمزقات، ويثير الدوار.
وهناك، على سبيل المثال، وصفة للتعذيب في مستهل كتاب المراقبة والعقاب، كما أن له صفحات في نظام الأشياء عن موت الإنسان تتسم بالمزيد من الهدوء، إلا أنها ذات تأثير خبيث وفعال، ولفوكو، أيضا، قدرة مذهلة على اختراع ميادين بحث كاملة مرجعها جهده الذي لا يعرف الكلل لصياغة فكرة الغيرية، وفكرة المحروق، دون أن يطوعهما، أو يحولها إلى عقيدة.
1985*
* ناقد وأكاديمي فلسطيني/ أمريكي «1935 - 2003»