في هذا الانفجار المفتوح على الاحتمالات، الانفجار الذي يهز المجتمعات العربية يرتفع السؤال عن ثقافة الأزمة.

الأزمة أيضًا، تصوغ ثقافتها. وثقافة الأزمة هي محصلة تاريخية لمعاناة مرحلة كاملة، مرحلة تختلط فيها الحروب بالحروب الأهلية، والحداثة بالاغتراب والأصالة بالسلفية، ويتم الانفصال فيها بين المسيطر والمسيطر عليه.


ولأنها كذلك، فهي مرحلة تختلط فيها النهايات بالبدايات في ثقافة الأزمة، خيارات ورؤى متشابكة بعضها يعلن الهرب من مواجهة الحاضر عبر اللجوء إلى صياغات الماضي، يعلن اللاعقلانية ويرتهن للغيب، يغرقنا في جنون طوائف الملوك وحروب ملوك الطوائف ويدور في الفراغ.

وفيها، نعلن أن الأشياء يجب أن تمضي إلى نهاياتها وأن على المنهار أن ينهار، وأن الاندفاع إلى إعلان موت الثقافة المسيطرة والعاجزة عن الاحتفاظ بسيطرتها هو الطريق الوحيد لتحديد الأزمة والقدرة على القول أنها ليست أزمتنا، وهي المحاولة الخلاقة للإمساك بطرف الأفق.

خيارنا الوحيد هو الانتماء إلى الإبداع في الثورة والثورة في الإبداع. هو أن تحاول لملمة فتات الضوء المختلط بالوحل داخل مرآة تكون إطارا للحرية وأفقًا لا تحده المسبقات الجاهزة. الانتماء إلى الإبداع والثورة هو المغامرة، لأنه انتماء إلى غد يتأسس، وفي المغامرة تكتشف أن أرض خياراتنا لا تكون إلا أرض حرية. والثقافة الجديدة هي إعادة اكتشاف الواقع العربي وكشفه والإسهام في تغييره. اكتشاف الواقع لا يعني أن نعكسه، فالمرآة التي تختار نطمح أن لا تكون آلة انعكاس محايدة بل أرضاً لحوار الاحتمالات الجديدة، وعلى هذه الأرض يكون المثقف المبدع كاتبًا منشئًا، كاتبًا يحطم صورة النص المستعاد داخل هرم... حيث تعاد صياغة اللغة المسيطرة أو لغة المسيطرين على اللحظة العابرة في لهجة الاجترار بل يكون مساهمتها في إنشاء الجديد والجديد هو الأصوات التي تتعدد وتتجاوز في حوار حر.

والثقافة هي صراع وأرض صراع.

إنها صراع، لأنها تكتب لغة الصراعات والتناقضات، ولأنها لا تستطيع أن تكتب نفسها إلا داخل الصراعات والتناقضات اليومية. وهي أرض صراع، لأنها لا تستطيع إلا أن تنحاز إلى نفسها وإلى الذين يشكلون مصدرها، وبهم يتشكل مستقبلها. وهي لذلك نص مفتوح. جاهز لم يجهز بعد. بداية تبدأ دائماً. ولذلك أيضاً فهي أرض لصراعها مع نفسها. والثقافة هي حرية وفعل حرية. لا تنمو إلا في الحرية ولا تتأكد إلا حين تقاتل من أجل الحرية.

والفعل كان البداية، وهو البداية التي تصنعها دائمًا أو نسقط ونموت. وفعل الحرية يعني إعلان القطيعة النهائية مع تلك العلاقة الملتبسة، ولا تخاطب إلا الرقيب الذي يجلس في مواجهتها أو في داخلها!

والقطيعة هي اختيار أرض جديدة إعلان الانفصال النهائي والرفض المطلق لهذا الالتباس المريب، والانتماء إلى الفعل صياغة معادل متشابك مع آلام وأحلام الذين تصنع لغتهم، لغة الجديد الذي يولد وتسهم من خلالها في إبداع رؤية مفتوحة لا يحدها الخوف ولا يؤطرها الوهم هنا تدخل الكتابة مغامرتها مع نفسها. تسقط كل الأوهام التي علقت بها، وتبدأ مغامرتها مع أرضها الخاصة التي تؤسسها مع بناء ثقافة جذرية. والثقافة هي تجربة تجريب دائم إنها ثقافة تجريبية - طليعية، أو لا تكون. ففي زمن هذا الانهيار الجارف، لا يكون الفعل إلا بحثا، ولا يكون الإبداع إلا تجريباً وتجربة والتجريب لا يتأسس في فراغ، إنه يتأسس في التجربة الملموسة نفسها وكجزء منها. فحين تتدحرج المرحلة، لا يستطيع أي فعل أن يتكون إلا بالعلاقة مع التجربة الملموسة، ولا تستطيع أية نظرية أن تتأسس إلا كتلخيص للتجربة التاريخية. فالإبداع الحقيقي هو الذي يبدأ من هذا الآن، ويرسم من الحاضر بكل تناقضاته أفق المستقبل، ويؤسس لنضج ثقافي آن لنا أن نصل إليه، وآن لنا أن نسعى إلى إعلانه، باعتبار أنه هو هذا الضوء في فتات وحل زمننا الذي نعيش.

والثقافة هي رؤية نقدية، هي نقد جذري وبأدوات جذرية صنعتها تجربتنا التاريخية وتجارب الشعوب الأخرى، نقد للثقافة المسيطرة ولنقدها المسيطر نقد لحياتنا ولتعبيراتها المتعددة.

والنقد يبحث عن الإنسان الذي يصنع تاريخه حين يستطيع أن ينقد هذا التاريخ والنقد بحث عن أنفسنا وكتاباتنا وآفاق المحتمل الذي تسعى إلى بلوغه.

والنقد لا يكون إلا داخل الرؤيا، داخل أن يكون الكاتب رائيًا فيرى، وشاهدًا فيشهد. والرائي الشاهد لا يعبر عن الذي يراه، بل يكونه، لا يعكس المرحلة، بل يسهم في تغييرها وصياغة مستقبلها، لا يكون محايدًا، لأن المحايد هو الوجه الآخر البارد للانهيار.

هذا الانهيار الشامل ليس انهيارنا، ليس انهيار الإبداع والأمل، ولا هو انهيار فلسطين الصراع والمعنى والمستقبل. الانهيارات علنية، والبديل يتشكل من الأزمة والمجهول الذي يكور قبضاته ويتقدم لافتتاح

مرحلته وامتلاكها حول اسم فلسطين التي تتفجر إشارات وكلمة سر لم تعد سرية.....

1981*

* شاعر وكاتب وصحافي فلسطيني «1941 - 2008»