لماذا تكون الحروب الأهلية أبشع الحروب، فيما هي تبدو في عيون أهلها أقلها مقتًا؟ يعود الأمر ببساطة إلى كونها الأكثر التصاقًا بالنزاعات العصبية. كان هذا الأمر حاضرًا في فضائنا المعرفي العربي ماضيًا، كما بينه الميداني في كتابه «أيام العرب في الجاهلية وأيام العرب في الإسلام»، ولما يزل قائمًا في أذهان كل أبناء وبنات العالَم العربي والشرق الأوسط المعاصر وسلوكهم.

المعرفة في شكلها الفوار

يكفي اليوم الاطلاع على الصحافة اليومية لمتابعة وقائع هذه الظاهرة المقعرة في تراثنا الحياتي، عبر استعراض ما يجري في ليبيا والسودان وسوريا واليمن والعراق ولبنان راهنًا.


لماذا تبدو يا تُرى الحروبُ بين الأهل الأحب إلى قلوبنا والأشد محاكاةً لِمخيالنا العاطفي؟

هذه هي دائرة العنف الأهلي والعصبي التي لا تَرحَم. دائرة حميمة مسكونة بالعنف والعقاب والارتداد على الأخوة في نهاية المطاف. لا مكان فيها للتبصُر العقلي والتعامل الإنساني، بل الحرص كل الحرص على إبقاء الجميع، من أحبة وإخوة، في دائرة الدم وغياب الرغبة في بلوغ مستوياتٍ مفتوحة من النظر السوي إلى الآخر، والتعامل معه على قاعدة غير قاعدة الغريزة المُعششة في عُمق وعي مُتقاتلين خارجين عن الزمن.

أوَليست هذه هي حالنا في جميع حروبنا الأهلية، الساخنة والباردة، الظاهرة والكامنة، على امتداد العالَم العربي المعاصر، في العراق واليمن وسوريا ولبنان وليبيا والسودان... وحتى فلسطين التي ننادي كلنا بتحريرها.

فلنتذكر دومًا أن خروجنا من دائرة الحروب العالمية والإقليمية التي باتَ لنا قرنٌ كاملٌ من الزمن نعيش تحت شمسها، لن يحصل إلا عندما نُقرر ونُحقق خروجَنا من فضاء حروبنا الداخلية والعصبية، الربيبة والحبيبة خاصتنا.

1 - لأنها حروب داخلية وبنيوية التركيب السوسيولوجي، تستدعي الجماعات لا الأوطان. ومن هنا طابعها الأهلي والعصباني؛ فهي لا تُخاطب عقل أصحابها، بل عواطفهم القَبَلية الدفينة ومخزون النعير والتذمر والاستماتة الذي أشار إليه ابن خلدون كركيزة لوعيهم ولا وعيهم.

2 - لأنها تستنفر العصبيات التي تُشكل ركائز المجتمعات التقليدية ومنطلق طرائق التفكير والتخطيط والتنفيذ عندها، هذه العصبيات التي لا ينطفئ وجودها النووي لكونه يقوم على معادلة «نحن» و«هُم» الاستبعادية لكل آخر غريب عن جماعتك، وبالتالي لكل عدو بالقوة والاستعداد بالنسبة إليك. علمًا أن «هُم» يُشير إلى جميع الآخرين، بمَن فيهم الأقربون.

والمثل الشعبي الذي يقول «أنا وأخي على ابن عمي.. وأنا وابن عمي على الغريب» خير مثال على هذه النزعة التي صارت حكمة. إذ عندما يكون صاحب العصبية مُستعدا للنيل من ابن عمه الذي تربطه به رابطة دم ورحم، لماذا لا يكون مُستعدا لتشغيل آلية التفكير هذه ضد أخيه لاحقًا، الذي تربطه به أيضًا رابطة دم ورحم؟ فمنطق العنف الدموي واحد شغال في مُختلف الاتجاهات، بحيث إن «الأخوة» العصبية لا تعدو كونها كذبة معرفية كبيرة كما يشهد على ذلك تاريخُنا القريب والبعيد.

3 - لأنها تبدو في نظر أصحابها دفاعية بحتة. لا يشعر مَن يُقاتل باسم جماعة ما، ولأجلها، بأنه يعتدي على إنسان آخر، بل يشعر مهما فعل بأن ما يقوم به هو عمل دفاعي مُبرر، لا تقف دونه عوائق أخلاقية. فالآخر ههنا هو جماعي (هُم) ومُعرى من إنسانيته. هو عدو خالص، في الدنيا كما في الآخرة. من هنا لا حاجة لتشغيل الضمير ولا لتبرير الأفعال؛ إذ إن فكرة الدفاع عن الجماعة تُغيب ما في الغزو من مسؤولية وما في القتل من أذى. يصبح كل شيء دفاعيًا، تمامًا كما هي الحال مع «جيش الدفاع الإسرائيلي» في تعامله مع الإنسان الفلسطيني.

4 - لأنها تبدو للمقاتل عن جماعةٍ ما دفاعًا عن كيانٍ أعلى ووجود جوهري، فالعصبية الصغرى التي يدعي المقاتل باسم الجماعة أنه يُقاتل من أجلها قضية كبرى ووجودية. بالتالي فإن عمله الحربي جهاد، والجهاد لا يُناقَش. فوجود الجماعة، كما هي، وكما جرى توريث مفهومها عبر العصور، هو المعنى الأبعد لوجود أفرادها؛ فإن بقيت هي، بقي هو. وإلا فالفناء الوجودي الكلي في الانتظار. وفي هذه الحال تغدو مشاركة المقاتل في مقاتلته للغريب أو ابن العم أو الأخ واجبًا ما فوقه واجب ومهمة ميتاوجودية.

وقد شهدتِ الحربُ الأهلية اللبنانية والصومالية والسودانية وغيرها أمثلةً عديدة وتطبيقاتٍ تَقاتلَ من خلالها أخٌ في هذا «الحزب» مع أخٍ في «حزب» آخر، وابن عم مع ابن عم آخر. مع العِلم أن الحزب هنا ليس المقصود به حزب سياسي بالمعنى الحديث للكلمة، بل مجرد تكَوْكُب لعناصر جماعة تحت راية عشيرة فرعية كبرى.

5 - لأنها مبنية على كراهية مُطلقة، فالآخر في النزاع الأهلي، عدو أقصى، والنزاع لا بد له من أن يُفضي إلى حربٍ من هذا المنطلق. ففسحات السِلم التي تحدث بين الجماعات الأهلية هي دائمًا مؤقتة ومهزوزة على الدوام، حيث إن مقولة «لا غالب ولا مغلوب» تَستبطن في أحشائها الاستعدادَ الدائم لتفعيل الغُلب الذي لا يغيب عن المشهد حتى في التعبير. فلا غالب ولا مغلوب، لا تعني السلم الأهلي، بل مجرد هدنة في مسار الغُلب، تطول أو تقصر بحسب مصالح صاحب الشوكة في الجماعة، من دون أن تتخلى عن كراهيَتها الوجودية للآخر وعدوانيتها المُطلقة تجاهه، المَبنية على تنشئةٍ عصبيةٍ منهجية حميمة منذ نعومة الأظفار.

6 - لأنها تَنشد تمجيد الـ«نحن» والقضاء على الـ«هُم»، فالجماعة الأهلية المُنغلقة، ترى أنها الوحيدة الجديرة بالوجود على وجه الأرض، ولاحقًا في السماء. والخصام يصب في الاقتتال لا محالة، كما يصب النهر في البحر. تنحصر إنسانية الإنسان في الاقتتال الأهلي بجماعة يُعينها ويُحرم منها كل من ليس منها، فالمنطق العصبي لا يعترف بمرآة عالِم النفس لاكان، وما تستدرجه في الإدراك والوعي، بل إن مرآته إطارٌ بحت، محفورة فيه صورة الجماعة حفرًا. ولذلك، كل مَن لا ينتمي إلى هذه الصورة المَشهدية لا وجود له.

ومن هنا فإن السلمَ مجردُ محطة زمنية وهدنة بين وضْعيتَيْن، وليس لقاءً وِحدويًا يمحو الفروقات. إذ لا وجود للـ«نحن» من غير وجود الـ«هُم». وهُم تعني دائمًا المُغايرين في الوجود والجوهر. فهل هي مُصادفة لغوية أن يكون مصطلح «السلام» مُرادفًا للألوهية في لغتها العربية ومحفورًا في أسماء الله الحُسنى، في حين أن السِلم هو المصطلح الوحيد الذي يستخدمه الناس والمثقفون في المجتمعات التقليدية، وكأني بهم يُدركون قصورهم عن بلوغ حقيقة مفهوم السلام؟

7 - لأنها حرب دفاع عن الأسلاف، فلدى المُقاتل في الحروب الأهلية والداخلية شعورٌ دفين وصلب مفاده أنه يُدافع عن ذكرى أسلافه، بل أكثر من ذلك، يُخال له أنه يُدافع عن أسلافٍ ما زالوا أحياءً في سلوكه وفكره وحياته اليومية والعملية من خلال تعلقه غير المشروط بالتراث ورمزياته.

ففي نظرة الدفاع عن ذكرى أسلافه هي استحضار للتاريخ واستنبات لشخصياته في الوعي العام؛ فالمقاتل الذي يُقاتل عن جماعة وباسم جماعة لا يُقيم وزنًا للمسار التاريخي العام، بل يعتبره مجرد سيرورة تتألف من سيرة أشخاص بارزين لا بديل عنهم في الحاضر وإلى الأبد. لذلك فهُم وملائكتهم موجودون على الدوام في وعيه الجَمعي.

8 - لأنها حرب مبنية على معرفة غريزية مقعرة، إذ تُحاكيه باستمرار صور بطولات دموية تنقلها السِيَر الموروثة، جيلًا بعد جيل، مع تبريرٍ لافت تارةً لدفاعٍ عن القَوم بالدم والحراب، وتارةً أخرى دفاعًا عن عقيدة الجماعة بالسيوف والبنادق والسواطير، وطورًا بالمزج بينهما في كوكتيل دم وعصبية وانتقام وثأر لا يشيخ.

بذلك يكون المقاتل في الحرب الأهلية مقاتلًا «أخويًا» مسكونًا بفرحٍ عظيم، يطيب له من خلاله ومن دون توبيخ ضمير، أن يتحول إلى «فنان في النحر والانتحار» على نحو ما جاء في رواية لمياء المبيض الأخيرة «ليلى»، حيث لا تظهر عبثية أفعاله على سطح وعيه السياسي والاجتماعي، فيقوم بتدمير كل ما يخص الآخر في فضاءات الـ«هُم»؛ ثم ينتقل إلى التدمير الذاتي في فضاءات الـ«نحن» التي ينتمي هو إليها. كمَن يُربي أفعى في قميصه ظانًا أنها لن تلدغَ إلا أعداءه فتلدغه هو أيضًا في النهاية.

9 - لأن مَن يموت خلالها يُعتبر شهيدًا، فالبطولة أرضية وإنسانية صرفة. أما الشهادة فروحية المحمول وسماوية الطوبى، بحيث إن التوصيف الثاني يلعب دورًا تطهيريًا للعنف المرافق له، ويُدخل النشوة الروحية إلى علاقة الإنسان والمُقاتل بمسائل العنف الأهلي والداخلي. فلا يعود بعدها المُقاتل في سبيل الجماعة خائفًا أو مُترددًا، طالما أن بطاقة سفره إلى الآخرة مضمونة سلفًا له في ميادين الاقتتال.

وتستوقفنا هنا صياغة الأحزاب القَبَلية والطائفية لأوراق نعي مُقاتليها في الحروب الداخلية، حيث صفة الشهيد حاضرة دومًا عند الجميع، علمًا أن الشهادة هنا مصطلح تقني مفتول المعنى مبني على حصرية الاستخدام على جماعة الـ«نحن» ومحجوبة عن قتلى جماعة الـ«هُم».

10 - لأنها تُحاكي غريزة الموت عند الإنسان المعصوب، هذا الإنسان الذي يغدو عاجزًا عن التمييز بين النحر والانتحار، بمعنى أن مُحركات العنف الأعمى تبدأ بالاشتغال ضد الآخر (ابن العم)، ثم عندما تفرغ من هذا الطور، يجيء دَور اشتغال محرك القتل في ذهنه باتجاه الذات، فيعمد إلى نحْرِ الذات ضمن دائرة الـ «نحن» فتكتمل دائرة العنف العصبي بالانقضاض على الشريك في الرابطة الدموية المُفترَضة (الأخ).

11 - لأن لا مكان فيها، معرفيًا، سوى للإنكار. فالنقطة العمياء الموجودة في عُمق لا وعي المُقاتِل ليست مرآةً عاكسة لأعمال الفرد في الجماعة الأهلية، بل مساحة سوداء قاتمة تَبتر أي نَوعٍ من أنواع التفاعُل الفكري والنقدي؛ بحيث لا وجود في هذه المساحة إلا لإنكار كل ما يتعارض مع مواقف الجماعة العصبية وأقوال - أحكام صاحب الشوكة فيها.

فالمعرفة في شكلها الفوار والمفتوح على حرية الاستنتاج، ممنوعة من الوجود في منظورها الذي لا يُبصر ما يحيط بها من أحداثٍ إلا بعَيْنٍ واحدة هي عَيْن الجماعة، حيث لا مجال للاستنجاد بما يطلق عليه ابن خلدون نعْت التبصر.

* عالم اجتماع من لبنان.

* ينشر بالتزامن مع دورية أفق الإلكترونية