بعد التفجيرات الإرهابية في 2003 وما بعدها، هدأت موجة التطرف الديني في المجتمع نسبيا وبدأ الأهالي يراقبون النشاطات التي كانت من المسلمات في السابق. مثلا بدأ الناس يسألون من هو مدرّس الحلقة التي يذهب ابني لها؟ وما طبيعة النشاطات التي تجري في المخيمات أو الرحلات الدعوية؟
كان في ثانوية الحاير مجموعة من الطلاب لعبوا دور حلقة الوصل بيني في المدرسة وبين الجماعة في الخارج. كانوا ينقلون كل ما يجري في المدرسة للخارج، وكان لديهم رغبة منطقية للغاية، وهي أنه رغم كل حواراتنا في المدرسة إلا أن المعلم له اليد الطولى في نقاشه مع طلابه بسبب خبرته واطلاعه، ولذا كان لا بد من إجراء مناظرة مع شخص يوازيه معرفة وخبرة ليتم اختبار أفكار المعلم بالفعل. ولذا بدؤوا في تنظيم لقاءات بيني وبين مجموعة من معلمين آخرين في الابتدائي أو أئمة مساجد من أهل الحي.
أغلب الحوارات في الحي كانت تنتهي باختلاف واضح وبهدوء أيضا. كانت نقطتي المركزية في الحوارات التأكيد على فكرة الاختلاف ومشروعيته. لم تكن القضايا في حد ذاتها تشغلني بقدر ما كنت أستثمرها لأجل فتح أفق جديد وتوسيع النظر والاعتراف بأن هناك مختلفا ربما لا نتفق معه ولكن له حق الوجود والتعبير. كانت هذه النقطة مزعجة للغالبية، فهي تلغي فكرة الرأي الواحد الحاسم النهائي واجب التنفيذ. كانت فكرة الخلاف حول الموسيقى أو إسبال الثوب أو الخصومة مع الآخر الكافر كفيلة بتفكيك أواصر الجماعة وتفتحها على المجتمع وإلغاء فرادتها. بمعنى أنه في مجتمع متدين أصلا كانت قضايا معينة ظاهرة مثل تقصير الثوب وعدم سماع الموسيقى لها رمزية كبيرة، فهي التي تميّز أفراد الجماعة عن بقية المجتمع، وإذا أصبحت قضايا خلافية وقابلة للأخذ والعطاء فإن مبرر وجود الجماعة قد اختلف وربما انتهى.
لم تكن النهايات الهادئة للحوارات مرضية، ففي الأخير لم تتم هزيمة الأستاذ المبتدع وكشف جهله للجميع، وربما تنتهي الحكاية بتوبته ورجوعه للحق. ولذا تم الترتيب لمناظرة مع شخصية من خارج الحيّ. وافقت مباشرة دون أن أعرف الشخص المقابل. أُعد اللقاء ليكون في سكن إمام أحد المساجد وحضره مجموعة من الطلاب وعدد آخر من أفراد جماعة التحفيظ. لم أكن أعرف الطرف المقابل ولكن قالوا لي إنه مدير ثانوية سابق ومشرف في مركز الإشراف. بدأ الحوار بشكل طبيعي رغم الاختلاف الواضح في الآراء ووجهات النظر إلى أن وصلنا إلى نقطة مهمة وهي عن علاقة الناس بالدين ودور رجل الدين في هذه العملية. شخصيا كنت أرى أن الناس تتحمل مسؤولياتها في فهم ومعرفة الدين ولديهم القدرة بأنفسهم على معرفة الحق من الباطل والاختيار وتحمل المسؤولية. في المقابل كان الأخ المقابل يعتقد أن غالب الناس غير قادرين على هذه المهمة، وهنا يأتي دور علماء الدين لتوضيح الحق من الباطل. بالمصادفة كانت في المجلس مذكرة مصورة مجموع فيها عدد من الفتاوى الغريبة. فتاوى من مثل أن طارق السويدان أشد خطرا من اليهود والنصارى، وغيرها من الفتاوى التي لا تكتفي فقط بتخطئة الآخر بل بنفيه ومنعه من الوجود. أخذت المذكرة وبدأت أستشهد بما فيها من آراء لا تسمح بوجود حوار ولا نقاش. المفاجأة أن هذا الشخص كان هو من جمع وأعد هذه المذكرة، مما جعله يستشيط غضبا. كان حادا جدا في تبديع أي قول يخالف مجموعة محددة من الأسلاف، لدرجة أنه بدّع ابن تيمية في جلستنا. قلت له لا بأس أن تبدعني ولكن سيبقى لي الحق في التفكير والتعبير والتواصل مع الناس بعيدا عن وصايتك. احتد النقاش إلى أن وصلنا إلى نقطة أنه يجب أن يبدأ معي في أركان الإسلام والإيمان أولا، ثم ننتقل للحوار، فأنا برأيه غير كفؤ لمحاورته. استمر الحوار أكثر إلى أن انتهى بمقولة مفاجئة، قال لي منهيا الحوار "والله لو أن لي عليك سُلطة لوطأتك بقدمي".. رددت عليه مبتسما "نِعم الأخلاق..أعلم أنك ستفعل".. انفضّ المجلس وعلمت لاحقا أن عددا من طلاب الحلقة كانوا يتشاورون في الاعتداء الشخصي عليّ بعد اللقاء ولكن شيئا من هذا لم يحدث.
كانت نهاية محزنة ولكنها كانت درسا تربويا مهما لي وللطلاب الحضور؛ درسا في معرفة أذى التعصب والتطرف ونهاياته المدمّرة، درسا في التفريق بين الرغبة الصادقة في الحوار وبين الحوار الذي لا يعدو كونه وسيلة للاستقطاب، وإن لم تنجح فالعنف هو الحل، درسا في القدرة على ضبط النفس والالتزام بالأخلاق، خصوصا عند الاختلاف وأثناء الخصومات الفكرية. كانت تلك المناظرة شاهدا حيّا على فكرة إن لم تكن معي فسأقضي عليك، شاهدا حيّا على خطورة إنكار الاختلاف والتنوّع، شاهدا على أن العنف هو الحل الوحيد في مجتمع يرفض الاختلاف ويصرّ على رأي واحد يفرضه بالقوّة. شخصيا كانت المناظرة تجربة مميزة، فرغم نهايتها الحادة إلا أنني كنت سعيدا لنجاتي من ردة الفعل العنيفة. كنت سعيدا لأنني لم أفعل الخطيئتين الكبريين؛ لم أتنازل عن عقلي وحريتي للطرف الآخر، ولم أنجرّ معه في التهديد والإرهاب الفكري. المثير للأسى أكثر أن موقف هذا الرجل ليس شاذا ولا غريبا حتى على مقرراتنا ومناهجنا الدراسية، فهي في موقفها مع الآخر تربي الطلاب على النظرة الحادة التي لا تسمح بمشاركة المختلف. كما أنها تربي على قضية خطيرة أخرى، وهي عدم العدل لا في عرض فكرة المخالف ولا في التعامل معه. هذه إشكالات أخلاقية عميقة لن يصلح التعليم دون إصلاحها.