ظلت مقولة «تقديم العقل على النقل» أو «العقل على النص» - لعقود طويلة - تُوضع ضمن إطار عقلاني وتعامل باعتبارها مقولة عقلانية وتنويرية. وفي السياق ذاته تصنف المقولة المقابلة لها «تقديم النقل على العقل» في خانة التقليدية واللاعقلانية بل يمكن أن تعامل باعتبارها مقولة رجعية ومتخلفة.

فهل يمكن أن يكون أصحاب المقولة الثانية أكثر عقلانية وأقرب للصواب من خصومهم، لأنهم فهموا حقيقة العقل والمعتقد الديني بصورة أوضح، ومن ثَم يقدمون رؤية أكثر منطقية؟ وهذا يجعلنا نغير وجهة نظرنا عن الصورة النمطية عن مقولة «تقديم العقل على النقل» ونصنفها مقولة خطأ وغير علمية أو لنقل إنها أسطورة.

دائرة العقل تختلف عن دائرة المعتقدات الدينية، ومن العبث استخدام العقل في تبرير المعتقد الديني أو إقامة البرهان والدليل عليه. وللمستشرق الفرنسي جوستاف لوبون وجهة نظر مهمة للغاية، ويمكن أن تفسر حقيقة العلاقة بين الوحي الإلهي والعقل وكيف أنه والاعتقاد الديني مختلفان في تكوينهما بالمعتقد الديني يصدر عن الإيمان ولا يمكن تفسيره بالعقل. وبحسب لوبون فإن المعتقد لا يستقر ولا يرسخ عند الإنسان بالعقل وإنما بالعاطفة. فعقولنا في واقع الأمر عاجزة فطرياً عن إقامة الدليل والبرهان لتبرير عقائدنا، ومن ثم فهي عاجزة عن تغييرها. وإذا بدل الإنسان عقيدته فإنها يبدلها بشكل لا شعوري لا يعرف مصدره وكأنه قبس إلهي لا دور للعقل فيه.


يقول لوبون في كتابه «الآراء والمعتقدات» موضحاً إشكالية العلاقة بين العقل والمعتقد الديني: «فالمعتقد هو إيمان ناشئ عن مصدر لا شعوري يُكره الإنسان على تصديق فكر أو رأي أو تأويل أو مذهب جزافاً وسوف نرى أن العقل غريب عن تكوين المعتقد، ولا يأخذ العقل في تبرير المعتقد إلا بعد أن يتم تكوينه». نلاحظ من كلامه أنه يؤيد فكرة تقديم النقل على العقل إلى حد كبير، وينظر للمعتقد الديني أنه لغز غامض يعجز العلم الحديث عن تفسير مصدره وآلية تشكله عند الإنسان.

للجانب الروحي عند الإنسان كيان مستقل عن كيان العقل، وهنا يمكن أن نجد أصلاً منطقياً لتعاطي الفقهاء مع مسائل الأسماء والصفات وتحييدهم للعقل عند دراسة المسائل العقدية الشائكة، وكيف يثبتونها كما جاءت في الكتاب والسنة من غير تحريف ألفاظها أو معانيها ولا تعطيلها أو نفيها أو إثبات كيفية معينة لها، فهي مسائل توقيفية لا سبيل للعقل في إثباتها إلا بدليل من الكتاب أو السنة، ولا سبيل للإنسان إلى ذلك إلا من هذا الطريق وهو الإقرار بما جاء في الكتاب والسنة دون تكييف أو تعطيل أو تشبيه، بمعنى تحييد دور العقل هنا أو تقديم جانب النص الصريح.

يبدو أن للعقل والمعتقد الديني مصدرين مختلفين، ولا مجال لإيجاد مقياس مشترك بينهما، وهذا يدلل على أن مقولة «تقديم النقل على العقل» أكثر عقلانية وفهماً لطبيعة العقل ومجاله وحدوده في الفهم والتفسير. وينكشف لنا أن مقولة «تقديم العقل على النقل» نابعة عن جهل بطبيعة العقل البشري وبجهل أكبر بمفهوم الاعتقاد الديني. فالمعتقد الديني وآلية رسوخه في وجدان الإنسان ليست حادثة بسيطة يمكن إخضاعها للتجربة والاختبار.