هل باتت ولادة حضارة حديثة امرا مستحيلا؟ وجميعنا متفقون على ان الحضارة هي الإرث المستقبلي للبشرية والصندوق الأسود الذي سيحمل في ثناياه مظاهر الرقي في شتى ازقة الحياة الحالية بما فيها ثقافاتنا الدينة والاجتماعية خُلقية كانت ام أدبية وباقي السمات الأخرى في الاختصاصات العلمية والفنية والثقافية الخ .. فقد كان شعور الانتماء مختلفا ونسيج الذاكرة الجماعية مختلفا عن اجيالنا السابقة ، كل شيء كان صحيحا بالفطرة ونظيفا الى حد الكمال ، هنا يكمن لب السؤال هل نحن جاهزون لنقلها نظيفة ومدعاة للفخر للعصور القادمة؟؟

في كل اتجاه القي به مسمعي اجد كلمة (تحديات) حاضرة وبقوة ،ونوقن ان الحضارة تنهار عندما نقف عاجزين ومكتوفي الايدي عن سل السيوف لمواجهة التحديات، أو نهزم في التعامل معها بطرق إبداعية فان المطلب الاهم لبناء حضارة ذات طابع رصين ومكتملة الاركان هو كيفية التعاطي مع ندرة الموارد والاختلافات البيئية الحالية ، وابتكار حلول تنمي الاستدامة والعدالة الاجتماعية، و نبحث عن الاغصان الطويلة المتدلية لنحكم قبضتنا عليها ونستعين بالتنوع كقوة دافعة ، مع التشبث بالهوية الثقافية حيث يرى (طه عبد الرحمن) عندما بحث في الهوية الثقافية التي رشحت لتكون عمود الخيمة في صناعة الحضارة، انها امر حيوي لأي امة تطمح للتأسيس. فالاستمرارية يجب أن تكون مرافقها الشخصي والمكلف بديمومتها ،ناهيك عن باقي الخصال الحديثة كالتقدم التكنلوجي ومقومات الابتكار المادي المبني على طاقة نظيفة خالية من الشوائب، والاستعانة بالروح الاخلاقية لأبيك وابي وما تربوا عليه من سيرة اجدادهم بعد اجراء الفحص الاشعاعي عليها وانتقاء الثمار الناضجة منها فقط .

اذكر عندما كان صفي في مدرستنا الثانوية يصل ذروته في اصوات صياح الطلبة ومشاغبتهم العفوية التي تزعج ادارات المدرسين في الجوار، كنا جميعا نعلم أن نهاية المطاف مسرح لتلقي التأنيب والتهذيب من مديرنا سليط السان. هذا الاحساس ينبثق من التمسك بنظرية الصح والخطأ. ونعلم أننا كنا حينها نحيد عن الطريق المعبد لنلامس الكتف الترابي، ولكننا سرعان ما نعود لنصحح المسار. كل المقومات التي اعادتنا متوفرة فالدين والاخلاق نشعر بها موجودة بالأصل في تركيبتنا، فما بالك لو ادخلت لباقي هذ التكوين العلوم الاجتماعية كعلوم البيولوجيا والتكنولوجيا والفلسفة في إطار موحد، فضلا عن العلم الاعظم والاسمى المتمثل بخصال واخلاق الدين الاسلامي. ولكن يجب إعادة تفسيره بطرق اكثر حداثة وابتكارا وتناسب العصر الحديث، وايجاد التوازن بين الاصالة المعتاد عليها والمعاصرة التي تمكننا من التعايش الحديث، والاخذ بكل هذه الشروط كلبان قوي لبناء حضارة مرتكزة على الفهم العميق لما فات من حضارات واقوام، ولكنها تتطلع إلى الحاضر والمستقبل.


ادلى العديد من الفلاسفة العرب دلوهم في تعزيز وتقويم الحضارات ولطالما كان هذا الموضوع الاناء الذي يعودون دائما لتناوله ، لأسباب عده منها اختلاف الوانه ومذاقاته التي تختلف في كل مرة، ومع كل هذا لم يصلوا إلى نهايات واضحة فمنهم من رأى أن (الأفكار) هي الأهم مشيرا إلى موارد المكان الطبيعية وثرواته وطرق توظيفها، واعتبر هذه الافكار من أهم مكونات الحضارة. وقد ذهب البعض إلى أن هناك شروط للنهضة لا تقتصر فقط على وفرة الموارد، بل الاهم من هذا وفرة المفكرين واحتياطي الافكار، وهذا لا يحصل الا بوجود التنمية الاجتماعية، ومن خلال البحث عن مساندة لهذه الافكار في نطاقنا العربي بالتحديد،فهناك رأي لمحمد عابد الجابري يشير إلى (العقل) وسلامة استخدامه للمعرفة والفكر باعتبارهما الموجه الرئيس في التصرف بالموارد المادية لشتى انواع الثروات، مع اصراره على ضرورة وضع ميزان يحمل الفكر من جهة والمادة من جهة اخرى.وقد القى اللوم فيما يخص تراجع الحضارة العربية والانتكاسات اإى الاعتماد على المادة دون العمل على التطوير الفكري ، فيما رأى اخرون أن الاخلاق الفاعلة والتي تعتبر في جوهرها فكرة ،هي البعد الاخلاقي الاهم لإعمار الحضارة ، وأن هذه الاخلاق هي التي توجه وتؤسس الطرق الصحيحة لاستخدام الموارد بطريقة ذكية تضمن الاستدامة وتحقيق العدالة والنمو.

وأجد بعد مشاهدتي لحلبة مصارعة الآراء هذه أنه لابد من وضع نظريات جديدة تفلت لجام تطويق الافكار واحتكارها أو حجبها. فكل من هذا يعطل تطور الحضارة وأعتقد أن تحرير العقل الانساني وطرح الافكار الحرة بالتأكيد سيؤدي إلى نهضة حضارية في ظل ندرة الموارد. أفكاركم ليست زينة وضعت للرفاهية، بل هي ضرورة حيوية وسلاح قوي لصنع الهيكل الرصين الذي سيحمل حضارتنا إلى الاجيال القادمة.