يتساءل المراقبون عن الكارثة التالية التي ستضرب أوروبا. وركَّزوا على إيطاليا حالياً، وعلى إسبانيا احتمال آخر. وقد نشرت مؤسسة "ستراتفور" الأميركية للأبحاث دراسة في نوفمبر الحالي توقع كاتبها أن الأزمة التالية في أوروبا ستكون أزمة سياسية، ليس بمعنى من سيكون السياسي التقليدي الذي سيتولى رئاسة الوزراء مستقبلاً، ولكن بمعنى أعمق يطرح تساؤلات حول ما إذا كانت النخبة السياسية الأوروبية تستطيع الحفاظ على السُلطة، أم أن قوى سياسية جديدة سوف تبرز وتعيد تشكيل المشهد السياسي الأوروبي بشكل كامل؟ إذا حدث هذا، فإنها ستكون أهم نتيجة للأزمة المالية الأوروبية.

رأينا حتى الآن بعض التغييرات في الشخصيات في البلدان التي في مركز الأزمة. ففي اليونان، تنحى رئيس الوزراء جورج باباندريو، فيما استقال رئيس الوزراء الإيطالي سيلفيو برلسكوني. ومع أن هذه الاستقالات تمثل تغييراً رسمياً في الحكومات، فإنها لا تمثل تغييراً رسمياً في السياسات. وفي الحقيقة فإن باباندريو وبرلسكوني استقالا شريطة أن تتبنى حكومة كل منهما سياسة التقشف التي تم اقتراحها خلال وجودهما في السُلطة.

يسيطر دعاة الوحدة الأوروبية على التحالفات التي حلت محلهم. فهم من جيل وطبقة ملتزمة فكرياً وعاطفياً بالفكرة الأوروبية. بالنسبة لهم، الاتحاد الأوروبي ليس مجرد أداة مفيدة لتحقيق أهداف وطنية، لكنه بديل عن القومية والفظائع التي جلبتها لأوروبا. هي رؤية لقارة متحدة تنعم بالازدهار وتلغي مخاطر الحروب الأوروبية. وبالنسبة لجيل القادة الذين ولدوا بعد الحرب العالمية الثانية مباشرة ونضجوا سياسياً خلال السنوات العشرين الماضية، كان المشروع الأوروبي من المسلمات الإيديولوجية وواقعاً مؤسساتياً. وشكَّل هؤلاء القادة شبكة عالمية اشتركت في هذه الرؤية.

عندما دعا باباندريو إلى استفتاء حول التقشف، وضعت النخبة ضغوطاً هائلة عليه للتخلي عن مبادرته. وبسبب أهمية اتفاقيات التقشف لمستقبل اليونان، كانت فكرة الاستفتاء منطقية جداً لأنها ستسمح للحكومة اليونانية الادعاء بأن أفعالها تتمتع بتأييد غالبية الشعب اليوناني. وبالطبع لم تكن هناك ضمانة بأن الشعب اليوناني سيوافق عليها. فعلت النخبة الأوروبية، بقيادة المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، كل ما تستطيع لمنع هذا. وتضمن هذا توقيف الدفعة الأخيرة من أموال الإنقاذ وتجميد أي مساعدات أخرى تهدف لإنقاذ اليونان إلى أن يلتزم الساسة اليونانيون بجميع إجراءات التقشف التي سبق التفاوض عليها. وبسبب ضغوط اليونان والنخبة الأوروبية، استقال باباندريو وحل محله نائب رئيس سابق للبنك المركزي الأوروبي. وهكذا اختفت فكرة الاستفتاء.

الأزمة الأوروبية الحقيقية

بسبب طبيعة الأزمة الأوروبية التي تكشفت في اليونان، تستطيع النخبة الأوروبية إنقاذ المفهوم الأوروبي ومصالحها الخاصة من خلال تحويل التكاليف على الشعب بشكل عام، وليس فقط بين المدينين. الدائنون مثل ألمانيا أيضاً يجب أن يستوعبوا التكاليف ويوزعوها على الناس. وببساطة، إن البنوك الألمانية لا تستطيع أن تتحمل الخسائر، مما يعني أن التكاليف ستعود على الناس.

لم يكن يفترض أن تسير الأمور بهذه الصورة في أوروبا، فقد وعد الاتحاد الأوروبي بازدهار أبدي. كان ذلك، بالإضافة إلى منع الحروب، والوعود الكبيرة التي أنعشت آمال الأوروبيين؛ ولم يكن هناك مشروع أخلاقي وراء هذين الوعدين. والفشل في تحقيق أي من الوعدين يقلل من شأن شرعية المشروع الأوروبي. إذا كان ثمن الحفاظ على أوروبا قد أدى إلى تدهور شديد في مستوى حياة الأوروبيين، فإن الحديث عن الحفاظ على الاتحاد الأوروبي يصبح ضعيفاً.

وبنفس الأهمية، إذا تبيَّن أن أوروبا فشلت لأن النخبة الأوروبية فشلت، وأن النخبة الأوروبية تدافع عن الفكرة الأوروبية كوسيلة للحفاظ على مصالحها الخاصة، فإن التزام عامة الناس بالفكرة الأوروبية سيصبح مشكوكاً فيه. إن الاعتقاد في أوروبا بأن الأزمة يمكن إدارتها ضمن الهيكلية الحالية للاتحاد الأوروبي شائع جداً. لكن الألمان قاموا بتعويم اقتراح يعطي الدائنين في أوروبا –يعني الألمان- السلطة للإشراف على القرارات الاقتصادية للمدينين. هذا سيقلل من شأن السيادة بشكل كبير. فقدان السيادة من أجل درجة أكبر من الازدهار ينجح في أوروبا، لكن فقدانها لدفع الديون للبنوك الأوروبية أمر يصعب تسويقه.

عامل الهجرة والانتخابات المقبلة

كل هذا يأتي في وقت تتصاعد فيه الحملة ضد الهجرة، وخاصة ضد هجرة المسلمين، بين الشعوب الأوروبية. ففي بعض الدول، يتجه الغضب إلى الاتحاد الأوروبي وسياسته الحدودية بشكل متزايد، وكذلك ضد النخب الوطنية والعالمية في كل بلد من البلدان الأوروبية، الذين استخدموا الهجرة لتغذية الاقتصاد في الوقت الذي تسببوا فيه بتوتر اقتصادي وثقافي بين السكان المحليين.

اجتماع التوترات العرقية والإثنية مع التقشف الاقتصادي وإحساس بالخيانة نحو النخبة يخلق مزيجا متفجرا. أوروبا استطاعت أن تتجاوز الانفجار حتى الآن. لكن المؤشرات التحذيرية يمكن رؤيتها بوضوح. الفصائل المعادية للاتحاد الأوروبي والهجرة كانت موجودة حتى في الفترة التي كان خلالها الاتحاد الأوروبي يعمل بشكل جيِّد، حتى إن أحزاب اليمين المتطرف في فرنسا استطاعت أن تحقق تأييداً بنسبة 16% في فرنسا. ولكن من غير المعروف ما هو الثمن الذي سيدفعه دعاة الوحدة الأوروبية بسبب الأزمة الحالية وغياب الحلول المعجزة. فيما تواجه إيطاليا أزمتها، سيصبح الثمن أكثر وضوحاً.

ستكون هناك انتخابات كثيرة في أوروبا خلال عامي 2012 و 2013، بما في ذلك الانتخابات الرئاسية الفرنسية في 2012 والانتخابات البرلمانية في ألمانيا في 2013. حالياً، يبدو أن هذه الانتخابات ستكون منافسات بين الأحزاب التقليدية التي سيطرت على أوروبا منذ الحرب العالمية الثانية في الغرب وتلك التي سيطرت منذ 1989 في الشرق. بشكل عام، هذه أحزاب النخبة التي تؤمن بشكل أو بآخر بالفكرة الأوروبية. لكن الفصائل المعادية للفكرة الأوروبية ظهرت داخل بعض هذه الأحزاب، وفيما تتصاعد المشاعر، ربما تتشكل أحزاب جديدة وربما تنمو فصائل معادية للفكرة الأوروبية داخل الأحزاب الموجودة. وأزمة بهذا الحجم لا يمكن أن تحدث دون بروز مجموعات شبيهة بمجموعة (احتلوا وول ستريت). ولكن في أوروبا، حيث إن الأزمة بالإضافة إلى كونها اقتصادية فإنها تدور أيضا حول العنصرية، والسيادة الوطنية، وحق تقرير المصير لكل بلد، والأسس الأخلاقية للاتحاد الأوروبي – هذه العناصر ستكون أكثر اتساعاً وأكثر قوة.

المشاعر الشعبوية الممزوجة مع الهموم العنصرية والثقافية هي الأسس الكلاسيكية لأحزاب اليمين القومية. اليسار الأوروبي بشكل عام جزء من النخبة المؤيدة لفكرة الأوروبية. باستثناء أجزاء صغيرة، هناك نسبة قليلة جداً من اليسار لم تنضم للفريق المؤيد للفكرة الأوروبية. واليمين هو الذي استطاع أن يكسب أنصاراً من خلال التحذير من الفكرة الأوروبية خلال السنوات العشرين الماضية. لذلك يبدو منطقياً توقع أن تصبح هذه الفصائل أكثر قوة عندما يتضح الثمن الذي سيدفعه الأوروبيون بسبب الأزمة، وتتضح الجهة التي ستتحمل هذا الثمن.

لذلك فإن السؤال الحقيقي ليس حول كيفية تطور الأزمة المالية، ولكن فيما إذا كان المشروع الأوروبي سوف ينجو. وذلك يعتمد على قدرة النخبة الأوروبية على الحفاظ على شرعيتها. والشرعية لم تختف بعد، لكنها تتعرض لامتحان لم تتعرض له من قبل، ومن الصعب رؤية كيف ستستطيع النخبة الحفاظ عليها.

وبغض النظر عما إذا كانت الأزمة الأوروبية القادمة ستتركز على إسبانيا أو إيطاليا، فإن المشهد السياسي الأوروبي سوف يتغيَّر كثيراً خلال السنوات الخمس المقبلة، حيث ستظهر أحزاب وقيم وشخصيات جديدة.

ويختم تقرير معهد واشنطن بالقول إن الأزمة الأوروبية تدور حول السيادة، والهوية الثقافية وشرعية النخبة. الأزمة المالية لها نتائج عديدة، جميعها سيئة، وسيكون تأثيرها على النظام السياسي كبيراً جداً.