كان هذا الهجوم الإسرائيلي الأول بالطائرات الحربية على إيران، وقالت إسرائيل إنه «حقق أهدافه» ومنحها «حرية حركة» في الأجواء الإيرانية. وبذلك حقق بنيامين نتنياهو حلماً يراوده منذ عام 2010 إلى أن حظي باستجابة أمريكية، وما يعزز هذا «الإنجاز» أنه تم في ظل إدارة «ديمقراطية» وبموافقتها ودعمها، إذ وفرت منظومة «ثاد» المضادة للصواريخ الباليستية وحركت سرباً من طائرات «إف 16» وقدمت 5.2 مليارات دولار كمساعدة مالية إضافية، عدا الدعم الاستخباري للدقة في تحديد المواقع المستهدفة داخل إيران. وعلى رغم أن واشنطن أبلغت نتنياهو وقادته العسكريين بأن عليهم التزام «رد موجه ومتناسب» لأنها لن تدعم تصعيداً يؤدي إلى حرب كبرى مفتوحة في لحظة انتخابات رئاسية، إلا أن التسريب المتعمد لـ«الوثائق السرية» عكس استمرار الارتياب الأمريكي بنيات نتنياهو وخدعه. لذا امتثلت إسرائيل لشروط جو بايدن، وذهبت أبعد من ذلك بإرسال رسالة إلى طهران توضح فيها الأهداف التي تعتزم ضربها.

كما أن إدارة بايدن لم تقصر تجاه إيران، فلم تبخل عليها بـ«النصائح» والتحذيرات وحتى التهديدات، انطلاقاً من أن الطرفين أصبح بينهما سجل من «التعاون» وجملة من التجارب ذات الحدين: إما أن تأخذ طهران بالنصائح ولو محرجة، أو تواجه انخراط أمريكا في حرب مباشرة ضدها ما دامت إسرائيل هي المستهدفة إيرانياً. وهكذا استطاعت واشنطن أن تهندس المواجهة الإيرانية- الإسرائيلية في أبريل الماضي، ثم في أكتوبر الحالي، باعتراض معظم الصواريخ والمسيرات قبل سقوطها في إسرائيل، وبإقناع الأخيرة بإبقاء ردودها في إطار محدد. اضطرت طهران إلى رمي كل ما دفعت به من حجج قانون- دولية وحقوق دفاع عن النفس (بعد قصف قنصليتها في دمشق ثم اغتيال رئيس المكتب السياسي لـ«حماس» وهو في ضيافتها) لتظفر باستعراضَين صاروخيَين كمكسب «استراتيجي»، وفي المقابل حصلت إسرائيل على مكسب «استراتيجي» مماثل. وبعدما تضاربتا صار عليهما الآن أن تعودا إلى «الرشد».

لم تبذل الأطراف الثلاثة أي جهد لتمويه الجانب «المسرحي» في الحدث، لذا فإنه نال حيزاً كبيراً من السخرية في إيران كما في إسرائيل. وبشكل موقت أمكن لبايدن أن يطوي صفحة «حرب إقليمية» لا يريدها في نهاية ولايته، ولا يريدها طرفاها طالما أن شرطها الأساسي غير متاح لإسرائيل (مشاركة أمريكية)، كما أن شرطها اللازم والضروري لم يعد متاحاً لإيران بعد الضربات القاسية التي تلقتها اثنتان من «ساحاته» في غزة ولبنان، وبعد نأي «الساحة» السورية بنفسها عن الصراع، أما «ساحتا» العراق واليمن فإن البعد الجغرافي يحد من فاعلية إيذائهما لإسرائيل... وما إن أعلن عن انتهاء الهجمات الإسرائيلية حتى اصطفت العواصم الغربية، بدءاً بواشنطن، لتحض إيران على عدم الرد «لكسر دوامة العنف«.


قبل «المسرحية» وبعدها لا تزال إيران في مآزق عدة، داخلية وخارجية: لم تقترب بعد من رفع العقوبات عنها لإنعاش اقتصادها، ولم تضمن بعد قبولاً إلى طاولة التسويات الإقليمية لأسباب تتعلق بسلوكها في المنطقة. كما أنها تمر بمنعطف حرج في علاقتها مع وكلائها الميليشياويين، إذ أتيح لهؤلاء ولبيئاتهم الحاضنة أن يتعرفوا الى حقائق كشفتها الوقائع، ومهما كانت معتقداتهم السياسية والمذهبية عميقة وراسخة فإنها مبنية على مصالح ترتبط مباشرة بـ«الأخ الأكبر» الإيراني. وإذا لم تكن طهران في صدد التخلي عنهم فإن انكشاف مناوراتها وحدود قوتها لا بد أن يقلقهم، علماً أنها جندتهم ضد «الدولة الوطنية» في بلدانهم وضد مجتمعاتهم، ولم تترك لهم خيارات أخرى.

خلال المداولات الأمريكية- الإسرائيلية في لائحة الأهداف المرشحة للضرب في إيران، كانت إسرائيل تسوي بلدات وقرى بالأرض في الجنوب اللبناني وتسقط مزيداً من العمارات في الضاحية الجنوبية لبيروت. وعلى رغم أنها كانت تتلقى ضربات موجعة من «المقاومة» في الشريط الحدودي وفي مناطقها الشمالية، فإنها حددت شروطاً تعجيزية للموافقة على وقفٍ لإطلاق النار، ولا يزال هدفها القضاء على قدرات «حزب إيران/ حزب الله» بتأييد دولي علني أو ضمني، وهذا هدف يصعب تحقيقه عسكرياً أو حتى بـ«حل دبلوماسي» يعيد للدولة اللبنانية سلطتها. أما في غزة فتمضي إسرائيل في ممارسات الإبادة لسلخ شمال القطاع وإفراغه من السكان لتثبيت احتلاله... وفي الأثناء تتباهى كل من إيران وإسرائيل بأنها حققت لنفسها «معادلة ردع» ضد الأخرى، أما الثمن فيدفعه الفلسطينيون واللبنانيون غالياً جداً.

* ينشر بالتزامن مع موقع «النهار العربي»