في مذكرات الرئيس الأمريكي جيمي كارتر، التي تحمل عنوان (مذكرات البيت الأبيض) عند حديثه عن أحداث عام 1978 كتب عن السياسة السعودية:

«أمضيتُ مع ولي العهد الأمير فهد الذي يتولى معظم التفاصيل ساعةً نتحدث عن القرن الإفريقي، ومستوطنات الشرق الأوسط، وقيمة الدولار، وتجارة النفط، من بين جميع الزُّعماء الذين قابلتهم هم الوحيدون الذين يرغبون في رؤية تشكُّل دولة فلسطينية مستقلة، ويؤيد الآخرون هذا قولًا وليس فعلًا... كنَّا صريحين جدًا في هذه النقطة، وأخبرناهم أننا نرى خطرًا حقيقيًا في إنشاء دولة فلسطينية مستقلة».

ليس خافيًا على أحد أنَّ الرئيس الأمريكي كارتر لا يعمل لصالح السّعودية وهو يخط كلماته هذه، ولم يكن له أن يضلِّل الرأي العام الذي يشمل النخب السياسية اللاحقة في الولايات المتحدة، وهو يسجل مذكراته، وليست لديه أي مصلحة في المشاركة في مناكفة سياسية ذاعت بين أيدلوجيات في الشرق الأوسط في الستينيات والسبعينيات، لقد ذكر النقطة التي كانت في الغرف المغلقة، وهو المصطلح الذي يحبذه أنصار نظرية المؤامرة ممن يتكلمون عن خفايا السياسة السعودية اليوم لاتهامها واختراع ما لا دليل عليه، مبرزًا نقطة خلافية حادَّة من عام 1978 بين السعودية والولايات المتحدة الأمريكية، وهو تمسك السعودية بتأسيس دولة فلسطينية مستقلة، وهو ما رأته إدارة كارتر حينها خطيرًا، ومع ذلك فقد كانت بعض الفصائل الفلسطينية لا تعترف للسعودية بهذا، إذ كانت الأفكار اليسارية تحرِّضهم على ابتكار أحداث لا أساس لها على أرض الواقع.


إذ تظهر اعترافات كارتر بأنَّ السعودية ساعِد للقضية الفلسطينية، وهو ما لم يعجب البروباغندا اليسارية، إذ كانت مشكلة اليسار الاشتراكي مع السعودية لا تتعلق بفلسطين، بل بالثروات والدعوة لتوزيع النفط بطريقة أممية، من باب إلغاء الطبقية في العالَم، وإلغاء الملكية عبر الثورة الأممية وتحويل الدول إلى جمهوريات عمالية على غرار الاتحاد السوفيتي، وكانت الأحزاب الشيوعية لا تنظر إلى قضية فلسطين على أنها قضية عربية فتلك بنظرهم شعارات شوفينية تحاربها الماركسية، وهم الذين دعوا للأممية بديلًا عن القوميات والوطنيات، ولذلك لم تقطع الأحزاب الشيوعية علاقاتها بالاتحاد السوفيتي حين اعترف بإسرائيل بل كانوا مرتبطين بموسكو رغم أنَّ ستالين سهل كل الطرق لهجرة السوفييت اليهود إلى أرض فلسطين وسارع للاعتراف بدولة إسرائيل، بل إنَّ العديد من الشيوعيين كانوا يرون في الحركة الصهيونية القادمة إلى فلسطين حركة عمالية تعرضت للظلم في أوروبا، وأنَّه يحق لهم الهجرة إلى فلسطين.

فحين يجري الحديث عن السعودية لا ينبغي إغفال أثر تلك البروباغندا التي استمرت لقرن ضد الدول الملكية، بشعارات الثورية الاشتراكية، ورغم ذلك فإنَّ السعودية كانت دائمة الدعم لقضية فلسطين، بصفتها قضية عادلة، وكانت تدرك أنَّ طريقة المحاور والارتباط بسياسات دول أخرى من بعض الفصائل الفلسطينية مضرَّة بالقضية الفلسطينية، كما فعلت الأحزاب اليسارية عندما ارتبطت بموسكو في ذلك الوقت، وحين عرَّف غسان كنفاني الروائي الفلسطيني شعبه قال: «هو شعب صغير شجاع»، وبهذا فإنَّ هذا الشعب الذي ناله الظلم التاريخي لمن أعظم الضرر على قضيته أن يُستغل أبناؤه من دول كبرى، تجعلهم وقودًا لحروب هدفها السياسي زيادة نفوذ الدول الداعمة، بدخولها لاعبًا نشطًا في قضايا الشرق الأوسط، دون أدنى اعتبار لاقتراب هذا الشعب من قيام دولته من عدم ذلك.

ومع الحرب الأخيرة على قطاع غزة، وقد تم قلبها رأسًا على عقب، كانت السعودية أهم صوت رسمي يسمي الأمور بأسمائها، بحديثها المعلن عن ضرورة قيام دولة فلسطينية بخلاف ما يريده رئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو الذي رأى في هذه الحرب فرصة له لتطبيق أجندته السياسية، فهي حرب ليست ذات أهداف عسكرية وأمنية مجردة، ويتضح ذلك بحرصه على السيطرة على منافذ غزة، ومنها معبر رفح مع مصر، ومحور فيلادلفيا على طول الحدود الفلسطينية المصرية، فلم يكن سرًا ضيقه بما يصرحه المسؤولون السعوديون على مختلف المستويات وعلى رأسهم ولي العهد حفظه الله.

وكما هي العادة الأمريكية في التعامل مع قضية فلسطين، إذ سعت تاريخيًا إلى فك الارتباط بين مختلف القضايا، فلا تريد ربط مطالب سوريا بالجولان بقضية فلسطين، ولا سيناء أيام احتلالها قبل 1973 بفلسطين، لكنَّ السعودية منذ ذلك اليوم الذي أقر فيه كارتر بجديتهم في قيام دولة فلسطينية مستقلة، لا يزالون يربطون بين علاقاتهم الخارجية وقيام دولة فلسطين، دون قبول منهم بفك هذا الارتباط، وهو ما يثبت أنَّ السعودية كانت وظلَّت وستبقى الساعد للقضية الفلسطينية، وأنَّها في سياستها تلتزم بربط الأقوال بالأفعال، ولا ترضى أن تكون تصريحاتها مجرد مجاملات دبلوماسية لا أثر لها في الغرف المغلقة!