حقائب المبتعث ليست أثقل ما يحمله في غربته. أثقل منها ما يحمّله إياه المجتمع بمختلف أطيافه من نصائح مسبوكةٍ أزلاً في الأعراف الاجتماعية، وخرائط معدّة مسبقاً لرحلته الدراسية، وصورٍ منتقاة سلفاً لما يجب أن يكون عليه أثناء بعثته وبعد عودته. رأيتُ هذا في مختلف مقالات الصحف، ومطويّات المساجد، وملتقيات المبتعثين، وإرشادات الآباء، وخطب الجمعة، ومدوّنات المدوّنين، وشروط الحكومة، ودموع الأمهات، وتوجيهات المبتعثين السابقين للمبتعثين الآخرين. نصائح عديدة توجهها هذه الأطياف الاجتماعية لهم، تحشرها في رؤوسهم منذ أفكار البعثة الأُوُلى، وترددها على أسماعهم حتى نداء الرحلة الأخير، وتأخذ عليهم تعهدات شفوية وكتابية، عاطفية وعقلانية، ترغيبية وترهيبية، بأن يكونوا دائماً كما (يُراد) لهم أن يكونوا لا كما (يريدون) هم أن يكونوا.

خليطٌ من الوصايات يعصره لهم المجتمع ذو الهيكل الأبويّ، ويظلّ يسقيهم إياه قبل الابتعاث وأثناءه وبعده، بغرض تشكيل مناعة مضاعفة ضد كل المخاوف الاجتماعية المعتادة من الابتعاث. تحصين هذا الفرد الذي يخرج من رحم مجتمعه إلى فضاء الآخر هو أولويّة فكريّة فطريّة لا يتنازل عنها المجتمع بكل أطيافه، بغض النظر عن تياراته الفكرية، ومراكزه الاجتماعية، وأجندته الثقافية. الجميع يؤمن بأن (ما بعد) الابتعاث، لن يكون مثل (ما قبل) الابتعاث، وبالتالي فإن السيطرة على مجريات هذا الابتعاث تشكّل أولوية حاسمة، سيتوقف عليها مصير التيار لمن تهمه التيارات، ومستقبل التنمية لمن تهمه التنمية، ومستوى الأسرة لمن تهمه الأسرة، ورضا المسؤولين لمن يهمه رضاهم.

منذ أن بدأت حركة الابتعاث أصبح المبتعثون نجوم المجتمع وهمومه، رجاءه وخوفه، ثقته وتوجسه. وهذا متوقعٌ جداً تحت ظل السؤال الاجتماعي الذي ولد مع الابتعاث: ماذا سيحدث عندما تأخذ من كل أسرةٍ فرداً وتزرعه في مجتمع آخر عدة سنوات؟ بالتأكيد إن الكثير سيحدث، ولكن لا ندري ماذا سيحدث؟ وكيف سيحدث؟ وفي غمرة (اللا تأكّد) هذه ينشط المجتمع في اتخاذ كل ما يمكن اتخاذه مسبقاً للتحكم في (ما سيحدث)، وتوجيهه نحو المسارات المقبولة والمطمئنة، كلٌ حسب تعريفه لهذا المقبول والمطمئِن، وكلٌ حسب قدرته على التحكم في تجربة الابتعاث، سواءً على مستوى المبتعث الفرد، أو مستوى برنامج الابتعاث ككل.

هكذا لم يسافر مبتعثٌ واحد إلا وفي رحله وزنٌ إضافي. نصفه مرئي كحقائبه التي يجرها وراءه في المطارات، ونصفه الآخر خفيّ كوصايا مجتمعه الملتصقة بظهره أينما اتجه. كل مثقل بأحمالٍ لم يخترها، بغض النظر عن وجهة نظره في هذه الأحمال، وهل يرضاها أو يرفضها؟ هل يعترف بفضلها أو يشكو من جهلها؟ هل يعدّها عوناً أم عبئاً؟ في نهاية المطاف، هو لن يُترك لشأنه ولو ظنّ أنه كذلك. ستلاحقه نظرات مجتمعه أينما اتجه لترى كيف يقضي يومه ويصرف حياته، وستراقبه حالما يعود لترصد الفوارق العشر بين ما كان عليه وما صار إليه. سيخيّل له أحياناً أن الابتعاث مصيدة اجتماعية تسهّل على المجتمع إصدار حكمه الأحاديّ الذي لا يخرج عن اثنين: راح وفسد، أو راح وفلح. لا توجد أحكام بينيّة أخرى غيرهما، ولا يوجد رصد دقيق لتغيرات شخصيته، ولا تحليلٌ واع لعمقه المعرفي والإدراكي والثقافي. المحاكمة أبسط من ذلك بكثير: هل عدت كما نريدك، أو عدت كما لا نريدك؟

رأيتُ هذا في كل مجريات الابتعاث. التيار الإسلاموي عبر مطوياته التي توزع على المبتعثين، ومحاضراته التي تعدّ من أجلهم، يطالبهم بالمعتاد من عزائم التقوى والتمسك بالدين، وأن يمارسوا الدعوة بأخلاقهم أو بأصواتهم كنشاط (لامنهجيّ) مرافق للتحصيل الدراسي، ويعدّ لهم حزمة من الفتاوى العقدية والفقهية، بعضها يعينهم على أمرهم، وبعضها الآخر يفصمهم تماماً، كتلك التي تأمرهم بتحري الصدق والأمانة في كل أمر ثم تبيح لهم الزواج بنية الطلاق وخداع الزوجات، أو تلك التي تحثّهم على حسن التعامل مع (أهل الكتاب) ظاهرياً، مع الإبقاء على بغضهم في القلب والوجدان. فيتحول المبتعث إلى لوحة دعائية مبتسمة من الخارج، وفرن من الكراهية والبغض والبراء من الداخل، ويا لها من شخصيّة سوية! والتيار الليبرالوي يطالبهم أن يتجهزوا بما يمكّنهم من إحداث التغيير الثقافي المرتقب بعد عودتهم، وكأن ابتعاثهم برمّته ليس برنامجاً للتحصيل العلميّ، والتزود المعرفي، بل مجرد معسكر خارجي للتدريب على مهارات الانقلاب الثقافي بعد عودتهم، وكأن المبتعثين ليسوا طلاباً يحمل كل منهم حلماً مستقلاً، ومشروعاً خاصاً، بل مجموعة جنود يرجى منهم الإتيان بما عجز عنه السابقون الأولون من الليبراليين في نضال التنوير والانفتاح. وما بين هذين الحدّين ليس أفضل منهما، لأن الذي يدّعي التوسّط بينهما يبني للمبتعث هرماً أخلاقياً مبتكراً وغريباً ومليئاً بالتناقضات التي جعلها التعوّد مقبولة، بعض أمثلته ذلك الذي يعينك على الغش في البحث الجامعي بكل أريحية، ثم ينكر على غير مسلم إلى حد القطيعة إذا أكل قطعة لحم مطهوة بشحوم الخنزير. وهذا متكرر ومعتاد بقدر ما هو غريب وشائن: فخيانة النظام الأكاديمي الذي سيمنحك شهادته مسألة فيها نظر رغم أثره التدميري على سمعة الوطن وأهداف الابتعاث، بينما الوقوع في فعلٍ يعود وزره على الشخص وحده مرفوض جداً. وأمثلة هذا (الوسطيّ) كثيرة، حتى إني أفكر أن أفتح المجال لطرح أمثلة إضافية لتعليقات القراء!

الجهات الحكومية، سواءً تلك المشرفة على الابتعاث بشكل مباشر أو ذات العلاقة غير المباشرة، لها مطالبها هي الأخرى من المبتعثين، ولها سلطات وصلاحيات تمنح مطالبها أولوية التنفيذ: إنها تطالبهم أن يكونوا خير سفراء لوطنهم، وأن يعكسوا صورة طيبة عنه، وألا يتسببوا في أي حرجٍ إعلامي ودبلوماسيّ للسعودية. وهذه المطالب واضحة ومبررة، ولكن مشكلتها أنها عامّة وغير مفصّلة، مما يدع مهمة تفسيرها للأفراد الحكوميين في كل سفارة أو ملحقية ثقافية، وهم مختلفون في رؤيتهم للفاصل بين الخيار الشخصي للطالب، والنظام الحكومي الذي يلزمه. فرأينا ملحقيات ثقافية تكتفي بتفسير مطلب (خير سفير لوطنك) في حدود التورط في قضايا قانونية، أو شبهات إرهابية، أو تصريحات إعلامية، بينما رأينا ملحقيات أخرى تتجاوز الأمر حتى تضع ضوابط لقصات الشعر المقبولة داخل الملحقية، وتفرض رقابة على سلوك (المبتعثات!) الشخصي داخل الجامعة.

المبتعث الذي يؤمن أن التنظيم وسيلة جيدة للنجاح عليه أن ينظم هذه المطالب في جدول متجدد: ما يريده منه التيار، وما تريده منه الحكومة، وما يريده منه والداه، وما يريده منه أقرانه، حتى لا تختلط عليه هذه المطالب. وعليه بعد أن يفرّغها في الجدول أن يختار ما يجب عليه أن يلتزم به، وما سيتظاهر بالالتزام به، ثم يرتبها حسب الأولوية والأهمية، ثم يدرس عواقب إهمالها وفوائد تطبيقها، وبعد أن ينتهي من هذا كله، فلعله يقضي ما تبقى له من الوقت في المذاكرة لاختبار الغد. أما عندما يطفئ مصباحه لينام، ويأوي إلى فراشه في حلكة الليل، فيمكنه حينها أن يفكر بهدوء.. في ما يريده هو.