هل من عتب على شاب مثقف ارتضى لنفسه تجسيد (الحداثة الرجعية)، فيقاوم الحداثة في وسط غير حداثي بحجة أن العالم في (ما بعد الحداثة) ليس إلا (نخبوية مزيفة)؟ إنه يتعامى عن واقع شعوب انحازت في (ربيعها العربي) إلى الخرافات وأوهام الكرامات، فلا يزال السحر جاثماً على (العقل العربي) لم يستطع رفعه، يكفي أن تشاهد البكاء على (عمامة سوداء) كانت تخطب فيهم ثم ماتت حتف أنفها، تعدهم بما لا يقبله منطق التاريخ لكن يقبله منطق الوهم العقائدي. يظن البعض أن الصهيونية عقائدية، وأقول نعم هي عقائدية ولكنها ليست عقائدية رجعية، تعتقد ثم تفكر، بل تفكر أولاً وثانياً وثالثاً ثم تعتقد، ولهذا قامت من العدم وأحيت لغة عبرية مندثرة من العدم. إنها (العقلانية، والفردانية، والمنطق العلمي) هي ما جعلهم يتفوقون حتى الآن على (اللاعقلانية، الجماعاتية، والمنطق العقائدي). لم يرتفع السحر عن العقل العربي الذي توهمه الجابري بتنوعاته الثلاث من خلال الكتب التراثية، ولم يعلم أن كتب التراث ليست كواقع الشعوب العربية مرتطمة بالحداثة منذ حكايا لورنس في (أعمدة الحكمة السبعة/1922) وحتى وجهة نظر أنطوان زحلان في (العرب وتحديات العلم والتقانة: تقدُّم من دون تغيير/1999).

تخيلوا مجموعة من نمور السيرك، هل ترونها عندما تقفز خلال القوس الناري متجاوزةً غريزتها الفطرية في الخوف من النار، هل يوجد أحمق يصدق أنها قد تجاوزت (الخوف الغريزي) ووصلت إلى معرفة عليا بطبيعة النار تشبه معرفة الإنسان بها وقدرته على إشعالها والتحكم بها. إن كل ما تعلمته هذه السباع هو الخوف من السوط واشتهاء المكافأة بقطعة لحم صغيرة يأكلها السبع على (حسن سيرته وسلوكه). أحياناً أقرأ بعض المكتوب في مجالات كثيرة تشمل الأثافي الثلاثة (الحق، الخير، الجمال) لكنها تكتب بنفس (مدرسي/سيركي) وهؤلاء سيكتب عنهم الذكاء الاصطناعي، فقد أتقن عبر خوارزمياته مراعاة السائد الثقافي، ولن يشعر القارئ بالفرق.

من السهل أن تكتب بشكل تقليدي عن (أي شيء)، يكفي فقط أن تحاكي خوارزميات الذكاء الاصطناعي لتكون لغتك بلا لون أو طعم أو رائحة، فتصفق لمكتوبك بأنه مقبول من الجميع كما لو كان مثل الماء الذي يشربه أينشتاين ويشربه أيضاً الحيوان الأليف في منزل أينشتاين، وبعضهم يبالغ في (تعقيم مكتوبه) من كل شيء، حتى يتحول إلى ماء مقطر تسقى به بطاريات السيارات قبل قرابة نصف قرن، فهل هذا (مكتوب حقيقي).


كنت أقرأ من يخالفني ولا يستثيرني (معرفياً) إذا كان متكأه في الكتابة على (العُرف العام) وهذا ما كانت تتوهمه بعض المدارس السلفية عن نفسها، فكانت تظن (العرف العام/الفطرة السليمة) عبارات تخصها وتشير إليها فقط، باعتبارها (مركز الكون)، وفاجأها الانفتاح الإعلامي السيبراني بتعدد الأعراف بل وتعدد المفاهيم حول الفطرة ومعناها. لقد خرجت السلفية من روضة أطفالها ودخلت مدرسة الحياة السايبرية، وها هي كالطفل تريد الإمساك بعباءة السلطة بحثاً عن حماية أو رعاية، بينما السلطة الرشيدة تطلب العلم والحكمة لأبنائها ولو (في الصين).

أرجو أن تكون ظنوني خاطئة، لكن أن يزعم المثقف أنه يؤدي دوراً تنويرياً وهو يتردد في الاعتراف بفضل رموز (التنوير العربي والعالمي) لأسباب (شعبوية) وبمبررات الرغبة في (الوسطية)، بينما أرسطو قد أوضح أن الوسطية هي (موقف بين رذيلتين فالكرم وسط بين رذيلة الإسراف ورذيلة البخل)، لكنه في المقابل سيسخر من وسطية عمياء (تحفظ ولا تفهم)، فتقف بين الظلام والنور. فحتى العرب حاضرة وبادية كانت تكره الوقوف في المنتصف بين الشمس والظل، أو الوقوف عند (العتبة/ بين الباب والغرفة)، إياكم ثم إياكم من (وسطية عمياء/نصف موقف) بين (حاكمية الإخوان وحداثة الدولة)، إنها وسطية أقرب لقضايا (الخنثى المشكل) في الفقه، وتلك أزمة الوسطية بلا بصيرة وحكمة. فأن تبتعثك الدولة لأفضل جامعات العالم على أمل أن تكون (فكرة حان أوانها) فلا يمكن مقاومتها، فإذا بك إما يساري متطرف (مشعل حرائق) يرفضه كل كهل حكيم، أو يميني متطرف (مطفئ مشاعل) يرفضه كل شاب نجيب، عاجزاً أن يكون (مشعل تنوير)، يدرك كل فكرة حان أوانها فيدفعها برفق كي تخرج من ترائب الماضي وصلب الحاضر وفق ديالكتيك طبيعي نراه حتى في حياة الفراشة يوم كانت يرقة بلا تشوهات أو عاهات.

وهكذا هم (الرجال المصلحون) الذين آتاهم الله عقلاً راشداً وقلباً واعياً حكيماً ورغبة (صادقة) في خدمة الشعوب والأوطان.