في ضَجيجِ مُؤلفاتِ السنين الغَابرة نجد مقولاتٍ ضائعة، لا يُعرف لها نَسب، وهذا ليس بغريبٍ، إنَّما الغريب أن تُنسَب هذه المقولات إلى أشخاصٍ بعينهم، وكأنَّهم آباء كُلِّ يَتامى المقولات، وعلى رأسِ هؤلاء محمد بن إدريس الشَّافعي، ويَهمُ المقالة أن تُشير إلى مقولةٍ مُحَدّدة نُسِبَت إليه وهي: «رأيي صواب يحتمل الخطأ، ورأي غيري خَطأ يحتمل الصواب»، على أنَّها انتشرت كالنارِ في الهَشيم بوصفها مقولةً شافعيَّة تُعبِّر عن منطقِ الاحتمال المعرفي، وكأنَّ ثمةَ تَواطؤ -لا واعٍ- على أن يُعترف بهذه المقولة -تحديدًا- بكونها سلفيّة؛ لأنَّها تُعبّر عن منطقٍ احتاجه العَصر الإسلاميُ الحديث، وهو منطق الاحتمال المعرفي الذي يُسَاعِد على فَتحِ ثَغراتِ معيشيّة للحياةِ العصريةِ المدنية.

للاحتمالِ معنى قديم، تستخدمه العربُ كقولهم: «التوكيد يُفيد نفي احتمال المجاز»، لكنَّ الاحتمالَ الذي تقصده المَقالةُ هو معنى ضيّق جاء مع تاريخِ (اللا يقين)، في سياقِ تطور نظريةِ المعرفة المرتبطةِ بالعلم والفلسفة. ويُمكن أن أُقاربَ لكلامي بالسرديةِ التي تربط الفيزياء بنظرية المعرفة؛ إذ لما سادت في أوروبا قوانين نيوتن أدّى ذلك إلى تسيّد (السببية) لكلِ نظرٍ معرفي، ولمَّا جاءت ثورةُ ميكانيكا الكمّ مع القرن العشرين، وأوضحت أنَّ كلَّ حادثٍ ذرّي تحكمه قوانين الاحتمال لا السببية، صار العقلُ يَضع في تصوره احتمالات لليقينِ المعرفي، أوصلته إلى نتيجة (اللا تحديد) كما أشار هايزنبرج.

إذن الاحتمال في سيرورة هذا المعنى الضيق، سيتعارض مع المعرفة اليقينية التي كان يصبو إليها الشافعيُّ وهو يُؤسِسُ لعلم أصولِ الفقه، والنظر المعرفي، وقد روى عنه أحمد بن حنبل أنَّه «لا يشتهي علم الكلام، وإنما همّته الفقه»، ولكي يُغلِق الشافعيُّ بابَ الاحتمال -الذي يجلب إمكانية النقيض- لجأ إلى تأييدِ دليل الإجماع بوصفه طريقًا يقينيًا، وتحريمه مصدريّة (الاستحسان)؛ وهو العدول عن قياسٍ جليّ إلى قياس خفي، أو أن تُستثنى مسألةٌ جزئية من أصلٍ كلي لدليلٍ خاص، وهذا سيدخل في بابِ الاحتمال الذاتي الذي ينبع من دواخلِ النَّظر المَعرفيّ الحسّي، ذلك النظر الذي رفضه سُقراط؛ لأنَّه دليلٌ سُفسطائيٌّ، يعتمد على حاسّةِ الإنسان، وحاسّتُه تختلف من شخصٍ إلى آخر.


وهذه المقولةُ المنسوبةُ إلى الشَّافعي تنصَّ على الذاتيةِ «رأيي صواب يحتمل الخطأ»، وهذه الذاتيةُ قد تظهر بأنَّها تتبرأ من يقينيّةِ الذات، وتُنصِف الجماعةَ، وبهذا يكون الشَّافعي متّسقا مع اهتمامه بالإجماع، لكنَّ الشَّطرَ الثَّاني من المقولة «ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب» لا يُسَاعد على هذا التأويل، لأنَّ مفهوم (الغير) هنا مفهوم أحدثُ من عصر الشافعي، فضلًا عن كونه لا يُناسِب العقليةَ الشافعيّة لمن عرفها جيدًا؛ لهذا رأت المقالةُ أنَّ هذه المقولة من صناعةِ الفلسفةِ الإسلامية الحديثة، للخروجِ من كثيرٍ من المآزقِ المعرفية في ظلِّ التغيرات المتلاحقة.

ولبيانِ مصدر إلصاقِ هذه المقولة بالشَّافعي، لا بُدَّ من التذكيرِ بأنَّ الشَافعيَّ بالنسبةِ للعلم الشرعي كأرسطو للمنطقِ، كما يقولُ الفخر الرازي، ومعنى هذا الكلام أنَّ المتفقّهين كانوا يتكلمون في مسائل أصولِ الفقه، ولكن لم يكن ثمة قانون كُلّي يُرجَع إليه لمعرفةِ مراتب الأدلةِ الشرعيّة، حتَّى جاء الشافعيُّ ووضع (الرسالة)، فصار ثمة مرجع لضبطِ حركةِ العقلِ وهو يتعامل مع النَّص، وإذا كان واضع علم الأصول -أي الشافعي- تُنسب له مقولة (الاحتمال) ضمن حركةِ العقلِ، سينتج عنه إدخالُ الاحتمالِ المَعرفيّ ضمن أصولِ الفقه، وستُبنَى شخصيةٌ جديدة للشافعي احتاجها الباحثون المُحدَثون، فمثلًا صار الشَّافعيُّ علامةً على صحةِ تغيّر الأحكام بتغيّر الزمان والمكان، لأنه بَدّلَ أحكامَه التي كانت في العراق إلى أحكام أخرى لمَّا ذهبَ إلى مصر، مع أنَّه لم يكن يُبدّل فعلًا، بل هذه (رغبة المتواطئين) في العصرِ الحديثِ، لأنَّ الزمانَ والمكان -آنذاك- واحد، ولم يكن فعل الشافعيُ إلا توسّعًا في الحكم، وزيادة بيانٍ بعد أن اتَّسعت رقعةُ أدلته ومكامنُ إدراكه الذاتية، وعلامةُ هذا الخطأ أنَّ الذين تَبنَّوا هذه المقولات عن الشَّافعي هم أصحابُ نقد الخطابِ الديني المتأثرين بصدمةِ التغير الجذري للزمن الديني، والمحاولين تجديدَ الشَّريعةِ بعلمَنتِها، وأمَّا بعضُ الشَرعيين الذين نسبوا مقولةَ «رأيي صواب يحتمل الخطأ» إلى الشافعي فهم المتواطئون دون وعي؛ لتأكيدِ أهمية أن تكون قاعدة الاحتمال موجودة لفكَّ الإشكال بتغيّر الزمانِ نوعيًا.

وأمَّا مصدر إلصاق المقولة بالشافعي فمرتبط بسؤال العَلاقة بين الاحتمالِ في سياقِه العلمي، والاحتمالِ في سياقه الديني، وهو (الوصولِ إلى اليَقينِ المُطلَق)، فلا يخفى أنَّ الدينَ عُومِل على أنَّه يقينٌ مطلقٌ، لهذا نسمع عبارات حديثة كـ: «هذا رأيٌ في الدين وليس الدين»، لمحاولةِ الخروجِ من مأزقِ نسبيةِ الواقع إذا ما وضِع بإزاء (اليقين المطلق)، وكأنَّنا نتخيَّل شخصًا يقول: «هذا رأي في العلم وليس العلم»، وبما أنَّ الاستقراء أساسُ العلم الذي يُعوَّل عليه في الوصولِ إلى اليقين، وفي الوقتِ نفسِه ظَلَّ ناقصًا؛ لأنَّه لا يُمكن أن تُجرَّب كُلّ الجزئيات، جاءت أهمية (الاحتمال) كبديلٍ لليقين المطلق في العلم، وأما الدين فلا يُمكِن أن يتنازل عن اليقين المطلق لصالح الاحتمال المطلق، فجاء المفكّر الإسلامي محمد باقر الصدر فأسَّسَ (المذهب الذاتي في نظرية المعرفة)، المذهبَ الذي يُعلِي فيه من شَأنِ (الاطمئنان النفسي) لأيّ قضية؛ وذلك بأن تجمع (الاحتمالات) كلها في أيّ قضية وتُشكّل منها يقينًا (ذاتيًا). إذن الشَّافعيّ -الذي يُمَجّد الإجماع- لمَّا نُسِبَت إليه مقولة «رأيي صواب يحتمل الخطأ»، فهو بذلك قد استقرأ كلَّ القرائن والظواهر لقضيةٍ معينة، فشَكّل في نفسِه (قيمة احتمالية/تصديقية)، ثم حَوّل هذه القيمة (الاحتمالية) إلى درجة اليقين باطمئنان (الذاتِ) وإقرارها، لهذا صار -بقدرة قادر- يُمكِن للشافعي أن يقول في الوقتِ نفسِه: «رأي غيري خطأ يحتمل الصواب».

التفاتة:

قرأتُ عند عبدالفتاح كليطو أنَّ السندباد الحمَّال -صاحب السندباد البحري- سُمِّي حمَّالًا؛ لأنَّه حمل أسبابَ النَّاسِ على رأسه.