أشرنا في مقالة سابقة لقضية المجاز في القرآن الكريم، وأن الإعجاز القرآني لا يكمن في حقيقة الأمر في وجود المجاز أو أي معانٍ باطنية أو رموز غامضة. فالإعجاز في القرآن يكمن في طريقة نظمه. والنظم الفريد في النص القرآني لا يتعارض مع كونه خطابا مقدسا موجها للإنسانية، بلغة تقع في دائرة فهم الإنسان العادي ولا تتطلب أفرادا ذوي كرامات خاصة، أو رياضات روحية معينة في لحظات كشف وتجلٍ لإماطة اللثام عن المعاني الخافية للنص المقدس.

النص القرآني حجة على البشر وذلك يعني أن الله سبحانه وتعالى يخاطبنا بلغتنا: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ). وبالتالي فإن الاعتقاد بوجود مجاز ومعان باطنية تظل قضية مشكوكا فيها. وفي تفسير ابن كثير لمطلع سورة البقرة للآية الكريمة: (ذَٰلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ) يحاول ابن كثير أن يصل للمعنى الدقيق لعبارة (لا ريب فيه) بتقديم كل المعاني المحتملة لها. فأول معنى يتبادر للذهن لعبارة (لا ريب فيه) هو: لا شك فيه. ولكن ابن كثير في تفسيره يقدم معنى آخر محتملا للريب وهو التهمة. فحسب ابن كثير قد يستعمل الريب في التعبير عن التهمة، ويذكر بيتا شعريا لجميل بن معمر وهو شخص عادي عاش في العصر الأموي، يقول جميل: (بثينة قالت يا جميل أربتني *** فقلت كلانا يا بثين مريب).

فمن يكون جميل الذي استشهد ابن كثير بأحد أبياته الشعرية في تفسير آية قرآنية ومن تكون عشيقته بثينة؟ لا يملك جميل بن معمر أي مكانة دينية خاصة، وكل ما نعرفه عنه حبه الشديد لبثينة حتى ارتبط اسمه باسمها وأصبح يلقب (جميل بثينة). توظيف مثل هذه الاستشهادات الشعرية لشخصيات عادية قد تحيل إلى معارفنا بالعالم الحقيقي للمجتمع العربي الذي نزل القرآن بلغتهم. لغة المجتمع الإنساني الذي تقع في لغته اليومية كثير من هذا النوع من المنطوقات، وبالتالي نستطيع أن نفسر معنى الكلمة في الآية القرآنية لأننا نعرف معناها الحقيقي المتداول في المجتمع العربي.


معرفة الاستخدام النحوي والصرفي للكلام -رغم أهميته- والبحث عن المعاني المعجمية ليس كافيا على الدوام لفهم المضمون الكامل للمنطوقات. ولا يمنح القدرة على الاتصال بهذه اللغة. وهنا يأتي دور السياق أو التداول الاجتماعي للمنطوقات للتعرف على الوظيفة الاتصالية للغة واستعمالاتها في مواقف إنسانية واقعية. وهذا ما انتبه له المفسرون العرب عندما تفرغوا لدراسة النص القرآني. فاعتمادهم الأكبر كان منصبا على اللغة الإنسانية؛ لغة الناس العاديين وكيف يتعاملون معها في سياق حياتهم اليومية.

اللغة في عالمنا وفي محيطنا الثقافي منحت مجتمع السلف أهمية خاصة، وهي أهمية لغوية بالدرجة الأولى، بمعنى أن النظر تجاه موقف السلف من بعض القضايا الدينية والعقدية يجعل النص الديني وثيق الصلة بموقفه الاتصالي، وتجعله مرتبطا بمناسبته وبمكانه وزمانه، وشركاء اللغة والأدوار الاجتماعية والأغراض، كي نصل لفهم واضح لحقيقة التشريع الديني. فالمدة الزمنية التي تفصلنا عن المجتمع العربي الذي نزل القرآن بلسانه، طويلة جدا، وكفيلة بقطع كل سبل التواصل والفهم بيننا، لذلك كانت اللغة الإنسانية وأدواتها التواصلية هي ملاذنا المتبقي لفهم واقع المجتمع النبوي وتعاليم الدين الإسلامي.