تتنافس إسرائيل وإيران على اقتناص «الفرصة الذهبية» التي تعتقدان أنها متاحة لإثبات نفوذهما في الشرق الأوسط، إن لم يكن لـ«تغييره» وفقاً لمصالحهما. وتقتضي آخر صيغة تُرَوّج إسرائيلياً «تفكيك أذرع إيران» في المنطقة كي ترتسم معالم ذلك التغيير، أما الصيغة الأكثر تداولاً إيرانياً فتراوح بين «هزيمة إسرائيل» و«محوها من الخريطة». وفي اللحظة الراهنة بلغ الصراع حافة «حرب كبرى» أو «حرب إقليمية» ينتظر اشتعالها ذلك «الخطأ» الشهير الذي يمكن أن يرتكبه الطرفان أو أحدهما... قبل عملية «طوفان الأقصى» وبعدها ردد قادة إسرائيل أنهم «في حرب مع إيران»، ثم راحوا يقولون إنهم يحاربون «على سبع جبهات» بعدما بدأت ميليشيات إيران «حرب المساندة لغزّة» من جنوب لبنان خصوصاً ثم من اليمن والعراق، وتخللتها هجمات متقطعة على قواعد أمريكية في سوريا أو العراق.

كانت الولايات المتحدة ولا تزال تدير الصراع، وفي ضوء النتائج، من قطاع غزة إلى الضفة الغربية وإلى لبنان واليمن، هناك شبه إجماع على أن إدارتها افتقدت أي رؤية واضحة، كما أن فاعلية سياساتها تضاءلت تدريجاً أمام اندفاع التطرف الإسرائيلي الممعن في الوحشية والجشع الاحتلالي حتى بعد كل ما ارتكبه ضد غزة وأهلها. وطوال العام الذي مضى، برهنت الإدارة الأمريكية أن «الثابت» الوحيد لديها ولدى حلفائها الغربيين كان «حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها» الذي تلقفه بنيامين نتنياهو وجنرالاته كـ«دعم مطلق» ولم يعد في الإمكان تقنينه أو تقييده. أما «المتحول» أمريكياً فكان ولا يزال يحير الحلفاء الغربيين والأصدقاء العرب، إذ لم يتمكنوا من إقناع الإدارة بأي خيارات مستقبلية (دعم حقيقي لـ«حل الدولتين» وإقامة الدولة الفلسطينية)، ولا حتى بهدنة لتبادل الأسرى، ولا بأي إجراءات «إنسانية» لتوفير المساعدات ومكافحة التجويع واستشراء الأمراض... كانت إدارة الحرب انتقلت إذاً إلى نتنياهو.

لكن البعد الإيراني للصراع كان دائم الحضور، وأوحت واشنطن بأنها تتعامل معه بشيء من التسويات المؤقتة مع طهران في شأن توترات البحر الأحمر وضبط بعض الميليشيات العراقية، أو تحديداً بعرض تسوية حدودية على «حزب إيران/ حزب الله» اللبناني لإقناعه بوقف مواجهته مع إسرائيل. غير أن المفاوضات السرية المعروفة لم تستطع أن ترضي طهران بالنسبة إلى مصالحها المباشرة (البرنامج النووي ورفع العقوبات، تحديداً) ولا توصلت إلى تفاهمات في شأن مستقبل النفوذ الإقليمي لإيران. لذلك فشل «منع توسيع نطاق الصراع» كمسعى معلن للإدارة الأمريكية، مما أدى تلقائياً إلى إخفاقها في منع إسرائيل من «توسيع الحرب» بدءاً بالاغتيالات (في قنصلية دمشق، وضاحية بيروت الجنوبية، ثم في طهران نفسها) وانتقالاً إلى حملة القصف الجوي ثم التوغّل البري في لبنان، وزيادة الضغط على الوجود الإيراني في سوريا، وصولاً إلى هجوم إسرائيلي مرتقب على إيران رداً على الهجوم الصاروخي الإيراني.


أما وقد توسعت الحرب وبلغت حد المواجهة المباشرة بين إسرائيل وإيران، فإن النقاش المحموم حول «أهداف» الهجوم الإسرائيلي ضد إيران واجه السؤال: هل تريد واشنطن حرباً على إيران؟ والجواب هو لا، فإدارة جو بايدن في أيامها الأخيرة ولا تريد أن تنتهي إلى توريط أمريكا في حرب لا تريدها، لكن نتنياهو ربما يجد في الانتخابات الرئاسية الظرف الأفضل لاستدراج أمريكا، وكذلك لتعزيز حظوظ صديقه دونالد ترمب. يكفي أن تستهدف إسرائيل مواقع استراتيجية إيرانية لتنطلق الشرارة، وهو ما كثّفت طهران التحذير منه، وصولاً إلى التهديد بقطع الإمدادات النفطية، وحتى بضرب منشآت الطاقة في دول الخليج.

في الأثناء تراكمت خسائر وكلاء إيران: قدرات «حماس» لم تعد كما كانت في 7 أكتوبر 2023، «حزب الله» اللبناني فقد قياداته وهو يقاتل حالياً بإدارة مباشرة من «فيلق القدس»، الميليشيات في سوريا تحت ضغوط شديدة في أجواء انعدام ثقة مع النظام السوري الذي يشعر بأنه مستهدف، أما الحوثيون في اليمن فيموهون خسائرهم بفعل الضربات التي يتلقونها على رغم استمرارهم في إطلاق صواريخ ومسيرات ضد إسرائيل. ومع أن واشنطن تطلق باستمرار إشارات عن تمايزها عما تفعله إسرائيل، إلا أن إضعاف إيران عبر تفكيك أذرعها المسلّحة في المنطقة كان دائماً من الأهداف الأمريكية والغربية المعلنة، غير أن إيران لن تتخلّى بسهولة عن ميليشيات استثمرت فيها طوال أربعة عقود ولا تزال قادرة على استخدامها ضد الدول والشعوب العربية التي تعمل على أراضيها.

* ينشر بالتزامن مع موقع «النهار العربي»