تخيل أنك تشاهد فيلمًا مثيرًا، حيث يشكل رأيك في الشخصيات والأحداث بناءً على الإخراج العالمي والأبطال الذين لا يقهرون والقضية العادلة وكلمات الحوار. هذا هو بالضبط ما يحدث في الحروب الحديثة، ولكن بدلاً من الأفلام، نستخدم وسائل الإعلام. هندسة السرديات الإعلامية أداة قوية تستخدم لتشكيل تصوراتنا عن الحروب، وتوجيه سلوكنا. من خلال اختيار الكلمات والعبارات بعناية، فالحرب تعتبر ساحة صراع لا تقتصر على الجبهات العسكرية فحسب، بل تمتد إلى ساحات أخرى لا تقل أهمية عنها، منها ساحة الإعلام والرأي العام، الذي أصبح تدور فيه معارك شرسة للسيطرة عليه وبمختلف الوسائل، حيث تلعب هندسة السردية الإعلامية دورًا حاسمًا في تشكيل تصورات الناس عن الحرب، وتوجيه الرأي العام نحو دعم جهود الحرب أو معارضتها، أو أن تكون في وضع المحايد. لذا نجد أن فهم آليات عمل هذه الهندسة يساعدنا على تحليل الخطاب الإعلامي الحربي، وتقييم تأثيره في القرارات السياسية والجماهيرية.

فبناء وتشكيل سردية متماسكة حول حدث أو قضية معينة، باستخدام أدوات الإعلام الحديث وفي سياق الحرب، يعتبر من الإستراتيجيات المهمة خاصة أنها تبدأ من عملية لفت الانتباه إلى التعبئة والحشد والتبني، وقد تمتد إلى الإيمان بقضايا نتيجة هذه الهندسة، التي تصل إلى العقيدة الراسخة والحياة من أجلها. هندسة السرديات الإعلامية والتي بدأت مع ( إدوارد بيرنيز) منشئ ما يسمى العلاقات العامة والبروباغاندا، حيث أدت جهوده في مجال العلاقات العامة إلى انتشار نظريات فرويد في الولايات المتحدة. كما أنه أول من استخدم علم النفس وغيره من العلوم الاجتماعية في قطاع العلاقات العامة، لتصميم الحملات وصياغة سرديات دعائية، وبين أنه في أبواب عالم الدعاية، كانت الجودة والخصائص هي محور تركيز الحملات الإعلانية. سواء أكان المنتج سلعة تجارية أو فكرة سياسية، وكانت المزايا هي البوابة للفوز بقلب العميل. لكن بيرنيز، في تحول جذري، قلب هذه المعادلة رأسًا على عقب. فبدلاً من التركيز على تغيير المنتج، رأى أن تغيير نظرة الجمهور إليه هو الأسهل والأكثر فاعلية.

قدم بيرنيز مفهومًا جديدًا أطلق عليه «هندسة الإجماع»، والذي يعني ببساطة القدرة على توجيه أفكار الجماهير وتشكيل آرائهم من خلال سرديات وفهم عميق لعقولهم اللا واعية. وبكلمات أخرى، كان بيرنيز يرى أن الجمهور ككتلة واحدة يمكن تشكيلها وتوجيهها كما لو كانت قطعة من الطين. وقد وجد في علم النفس الأداة المثالية لتحقيق ذلك. تأثير بيرنيز تجاوز حدود نظرياته، فسرعان ما تحول إلى ظاهرة عالمية، وأصبح اسمه مرادفًا للتلاعب النفسي في مجال الدعاية. ورغم مرور عقود، لا يزال تأثيره حاضرًا بقوة في عالمنا المعاصر، حيث يستخدم في الإعلام الحربي الأركان نفسها لهندسة السرديات الإعلامية، ومن ضمنها صناعة الشخصيات الاعتبارية، وأبطال المعركة والقضية التي من أجلها وقعت الحرب. فمن ضمن هذه المفاهيم نجد مصطلحات (حق الدفاع عن النفس إلى حق العيش إلى حق تقرير المصير) وغيرها الكثير. ومن يراقب المكينة الإسرائيلية يجدها تركز على هذه السرديات في خطابها الإعلامي الموجه إلى الغرب، من أجل حشد الرأي العام العالمي لتبني أفكارها واتجاهاتها وأفعالها.


كذلك من أركان هندسة السريات الإعلامية صناعة الهدف النبيل والهدف الأسمى، والمتمثل في الدفاع عن الوطن من خلال خطاب عاطفي ولغة عاطفية ومباشرة، للتأثير في مشاعر الجمهور، واستثارة مشاعر الوطنية والخوف والكراهية. وبأسلوب متكرر عبر مختلف وسائل الإعلام، بهدف ترسيخها في أذهان الجمهور وتبرير الاعتداء وتحويلها إلى حروب عادلة لابد منها.

الحروب الإعلامية والحروب الكلامية تستخدم أسلحة قد تكون غير مشروعة وغير أخلاقية للحصول على الانتصار الذهني فهي، تنظر لنفسها على أنها في حالة حرب، وبالتالي تسعى لاستخدام كل الأساليب للسيطرة على العقول والأفكار حتى تتجه وتواكب سياسة الحرب على الأرض.

لذا نجد أن تشكيل الرأي العام: يمكن للهندسة السردية أن تشكله وتؤثر فيه، فهي أداة قوية يمكن استخدامها لتحقيق أغراض سياسية. ومن الضروري أن نكون واعين بآليات عمل هذه الهندسة، وأن نتعلم كيفية حماية أنفسنا من تأثيرها السلبي.