تلازمني الخيبة عند المقارنة بين ما سمعناه عن عطش الشباب المثقف قبل خمسين عامًا لقراءة تاريخ ومؤلفات رواد النهضة العربية دون استثناء (مسيحيين ومسلمين) وأبدأ بالمسيحيين قبل المسلمين لأنهم (ملح العرب) وصمام أمان ثقافي يخيفني أن يختفي، ومن قرأ (ملوك العرب) أدرك سعة الأفق وصدق العروبة وقوة الأمل وسمو الروح عند أمين الريحاني، ثم شكرًا لألبرت حوراني على كتابه (الفكر العربي في عصر النهضة 1798-1939) ورحم الله سلامة موسى وإدوارد سعيد وجورج قرم.. وأمد الله لأمين معلوف بالصحة والعافية وقائمة الأماجد من المسيحيين العرب تطول، منذ يوحنا الدمشقي وحتى الآن، مخلصين لأوطانهم عاملين بنهج (الدين لله والوطن للجميع).

عندما نقارن كل هذا بعطش كثير من الشباب المثقف الآن لقراءة كل ما يناقض طموحات وآمال رواد النهضة العربية فيما قبل الحرب العالمية الأولى، ويناقض طموحات وآمال رواد النهضة العربية فيما بعد الحرب العالمية الثانية نصاب بنصف خيبة حفاظًا على نصف أمل، فلقد أصبحنا فيما بعد الحرب الباردة بعد سقوط جدار برلين كالطائح على وجهه من ظهر الأيديولوجيات الأممية (دينية، قومية) ولم نفق من الطيحة إلا على 11 سبتمبر لنجر العالم (معنا وبنا) إلى (الحرب على الإرهاب) لنكتشف أن لكل حرب (جغرافيا)، وما زلنا حتى كتابة هذا المقال في عالمنا العربي نحن (الميدان والأرض) لهذه الحرب مع اختلاف طفيف في التفاصيل هنا أو هناك.

بعض الشباب المثقف اليوم ومعهم مفكرو (الحداثة الرجعية) يركبون القاطرة الخطأ (قاطرة غربية خالصة تمارس نقد ذاتها الحداثية) ليمتحوا منها نتاجهم الفكري وهي قاطرة تخص الأوروبيين، ولكنها لا تخص الصين والهند، فحضارتهم عريقة في التاريخ وحداثتهم عريقة في التناص إلى حد التلاص مع الغرب في حضارته دون حرج أو قلق بل منافسة محمومة نحو التقدم في كل مجال دون أن يرتبك الصيني مثلًا من سؤال الهوية المختزل في لبسهم للبدلة (الإفرنجية) بدلًا من ثياب (الهانفو)، فما بال بعض الشباب العربي مشغول بنقد حداثة لم يعشها، إلا إذا كان يتوهم في امتلاكه الأجهزة الحديثة امتلاكًا لكل تاريخ حمولتها الحداثية وتطور عقلها العلمي، حتى كتاب إدوارد سعيد الهادف إلى (نقد الاستشراق) ليرتقي به إلى مستويات أكثر علمية وموضوعية، تحول على يد (شعبويي الفكر والثقافة) إلى (سعيدية مبتذلة) صاغوها في مشاريعهم الفكرية لتقرأ من وراء سطورها عقل المؤامرة وحاكمية الفسطاطين.


كيف تكونون مثقفين وأنتم عطشى للشعبوي بكل تجلياته، حتى ولو دخل (مشاهير الشعبوية) جحر ضب لدخلتموه، لا يغريكم بضعة (مثقفين كبار بهذه الشعبوية، إنهم يعانون أزمة عمر لا أزمة ثقافة) فليس التأثير في (التمدد الأفقي) وسط الجماهير فهذا شأن السياسي في إدارة قواعده الحزبية أو عموم شعبه، أو شأن الإعلامي أو (الفنان) مع جمهوره الفني أو (اللاعب) مع جمهوره الرياضي، وليس شأن المثقف المستقل القادر على (العزلة) في سبيل حضور الفكرة الخالدة بديلًا عن حضور الجسد الفاني، أستثني الشعراء فقط فيجوز لهم في (اللغة والحضور) ما لا يجوز لغيرهم لأنهم وحدهم من يملك فصاحة وبلاغة (الوعي العربي مرتطمًا بالحداثة) كما في قصيدة (عاشق بدوي في عصر الحداثة) إنها قصيدة تفتح الخِبَاء على مصراعيه للحداثة بكل ما في ذلك من تداخل الأيديولوجي بالميثولوجي، إنها مفارقة تليق بالشعر.

أرى جموعًا حاشدة لشباب مثقف لا يفرق بين (صبر التعلم، والصبر العلمي) كما وضحه غاستون باشلار في (تكوين العقل العلمي)، يريدون المشاركة في تثاقف الحداثة بلا عدة حداثية سوى صدى ترجمات يحفظونها دون وعي بمفاهيمها ترتطم بدوغمائية أصولية يعتنقونها، ليكونوا (سكولائيين/مدرسانيين) ممن (يعتقد أولًا ثم يفكر) فكيف تسير عربة التفكير النقدي للأمام والحصان خلفها!!، ولو استوعبوا مفارقة أن (يعتقد أولًا ثم يفكر) على عقولهم وواقعهم، لاكتشفوا (الورطة الوجودية) بشكلها العاري في كل ما كتبوه بشكل مباشر أو غير مباشر ضد الحداثة في العالم العربي.. وللحديث بقية.