إذن نحن أمام سيرورة للفظِ (مهم)؛ فقد يأتي بمعنى المُحزن المُقلق، كما قال تأبَّطَ شَرًّا: «قليل التَشكّي للمُهمّ يُصيبه»، أو يأتي بمعنى العظيم الشّديد، وكلا المعنيين يُشيران إلى شَيءٍ لم يَكُن يُرى، ثم صَار مرئيًا، كمثلِ حياةِ السُودِ التي يُراد لها أن تكون مُهمّة، أي مرئية معترفًا بها.
والسؤال: من عاشَ في حياةٍ مهمةٍ هل هو مُعاقب كما دعا ذلك الصّيني، أم هو مُثاب كما هي إرادة السُود؟ هذا القلق بين رغبة أن تكون مهمًا، وألا تكون، هو سبب اختيار الإنسان لنفسه حياة مهمة، وفي الوقتِ نفسِه يَغبطُ من كان خارج الحياة المهمة، بل يتمنى حياته. ولا أدلَّ على هذه الازدواجية من أنَّ القلقَ مصاحب لمن كان في منصبٍ مهم، ومصاحب لمن هَمَّشَه المجتمع المدني، إلا أنَّ من عاش في حياةٍ لا تَخضع لعرفِ الأهميةِ المَدنيّة فعليًا، فإنَّه يتمنّى أن يُنسَى تَمامًا، كما قال محمود درويش: «فأشهد أَنَّني حيُّ، وحُرُّ، حين أُنْسَى»، والنسيان هنا هو ألا تُعاقَب بالأهمية ولا بالتهميش، ألا نُلاحظ أنَّ مريم قالت: «يا ليتني مِتُّ قبل هذا وكنتُ نسيًا منسيّا»؟ أي لا مُعاقب ولا مُثاب، لكن تحضر الآية الأخرى: «أيحسب الإنسانُ أن يُترك سُدى» لتُبينَّ أنَّ أمنيةَ أن تكون في منطقة فريدة هي أشبه بالإنجاز (الفردي) المستحيل، وقد جاء في خزانةِ الأدبِ أنَّ لفظَ (سُدى) مرتبطٌ بالإِبل المُهملة التي لا يردهَا أحد، فهي (السُدى)؛ لأنَّ صاحبَها يَذهب بها إلى مكانٍ بعيد، ويَربطها رباطًا خَفيفًا، ثم يتركها، ولما تَفكُّ الإبلُ وثاقَها تَهيم حتَّى يأتي أجلُها. وسبب ربطه إياها؛ كي لا تتبع آثارَه وتَعود إليه؛ وهذا يُشبِه فعلَ الإنسانِ المُهَمّش وهو يتّبع خطواتِ المُهمّين في الحياةِ المدنية، كأنَّ صاحبَ الإبل وهو يَربطها يقول لها إني موكولٌ بكِ وها أنا أربطكِ لأعود إليكِ، وهي تفهمه هكذا: «سأذهب وأعود...»! ولكن لا يعود، وسيبقى سؤال: «هل الآيةُ طمأنينةٌ أم تخويف»؟ سؤال يطرح مفهوم الرعايةِ في الحياة، فالإنسانُ قد يعيش ازدواجيةً بين رغبةٍ بالناس ونفور منهم، رغبة بأن يُرعى ورغبة بأن يُنسى، وهذه خاصية تجلّت في زمنِ الأهميةِ المزيفةِ والحقيقيةِ في آنٍ واحد.
في هذا السّياق أتذكّر ثلاثيةَ المخرج البنغلاديشي ساتياجيت راي عن حياة الصبي (آبو) في الخمسينيّات الميلاديّة، الثلاثية التي رآها أحد المتفرجين فصرخ قائلًا: «هذه هي السينما لقد خدعونا الأوغاد»، فماذا أحسّ هذا المتفرج من معنى جديد ينقله من التهميش إلى الأهمية؟ ربما هنا سننتقل إلى البحثِ عن طور مهم في السينما الهندية/البنغلاديشية، وهو الواقعية الاجتماعية، فهذا الفيلم قَدَّم صورة (مهمة) عن حياةِ هذا المتفرج، وهي حياته الريفيّة الحقيقية، كما أنه صُوِّر في الريفِ مباشرةً بعد أن كانت السينما الهندية تُصوَّر بأماكن ممنتجة في (الأستوديو)، فكان هذا المتفرج أمام حياته، يراها كما هي؛ إذ تدور أحداثُ الفيلم الأول من الثلاثية حول عائلة فقيرة تعيش في قرية نائية في بلاد البنغال، الأب يعمل كاتبًا ويبحث عن أهميةِ وجوده، ولماذا همّشه المجتمع؟ والأم تُعافر في ترابِ الحياة؛ لتبحث عن حياة مهمة لأولادها في ظلِّ الفقر المدقع، بينما الطفلان يستمتعان بحياةٍ بسيطة تشبه حياة الإبل قبل أن يتركها صاحبها سدى. وتمضي الحياة بهم مهمّشين، حتى تَمرض البنتُ مرضًا مميتًا، من نقصِ (الرعاية) الطبية، إلا أنَّ الأب حين عاد إلى البيتِ وجد ابنتَه ميتةً، وكأنَّها ناقةٌ خُدِعَت في الصحراء بعد أن تركها صاحبُها، وهذه نهايةُ العائلة في القرية؛ لتبدأ في مدينة (بنارس) والبحث عن معنى الحياةِ المهمةِ في الفيلمِ الثاني من الثلاثيّة، وفيه تركيز أكثر على حياةِ الولد الذي كَبر بعيدًا عن أختِه التي ودَّعته إلى مكانٍ ترجو فيه ألا تُترك سُدى، ثم تركه والده الذي اضطرّ للعمل كاهنًا؛ ليبحث عن دربٍ مهم في حياة التهميش، ولما وجد الولدُ منحةً أكاديمية في مدينة أخرى هي (كلكتا) وقع في صراعِ الحياةِ بين رؤيةِ أمه التي تَشعر بالغربةِ، وتركه إياها، فهل يتركها وتتركه سدى أم يهتمون ببعض وكأنّ الحياة تقوم على معنى الرعاية في مفهوم خاصّ، بعد أن فقدت المعنى العام؟ وهذا معنى تطوري في الازدواجية التي ذكرتُها آنفًا، أعني: الرغبة بالناس والنفور منهم. إلا أنَّ الأم ماتت أيضًا كالناقة المغدورة، وظلَّ الابنُ يُشكّك في معنى أن تكون مهمًا في ظلِّ حياةٍ مستعمرَة، وهذا هو أحداث الفيلم الثالث من الثلاثية، وفيه يُكرّر الولدُ حياةَ أبيه ككاتب، وكأنَّ الحياةَ تسخر منهم بتكرّر مأساةِ التهميش، فيتزوج بحدثٍ كوميديّ غير متوقع، ويُنجبا ولدًا، فتموتُ الزوجةُ -أثناء الولادة- من ضعفِ الرعايةِ الطبية في تكرار لمأساة الأخت، فيُترك الطفلُ لحياةِ السُدى، وكأنًّ الحياةَ تُطلّ كملهاة مرة أخرى، فيُغادر (آبو) المدينةَ ليبحث عن المعنى مرةً أخرى إلا أنَّه يعود عودًا أبديًا لابنه في استسلام للدورة نفسها.
التفاتة:
أليس الشتاتُ احتلَّ القمةَ وصار يتّسع للجميع؟ إذن ربما استشرى القلقُ لمَّا صار الكلُّ مهمًا.