هل أخطأ فوكوياما حين تحدَّث عن نهاية التاريخ؟ من وجهة نظري، نعم أَخطأ ولسببٍ بسيط، هو أنّه لا يُمكن أن نتحدّث عن نهاية شيء هو أصلاً غير موجود، إذ كيف ينتهي التاريخ وهو لم يَبدأ بعد. لا شكّ أنّ القارئ سيَستغرب من كلامي عن عدم وجود "التاريخ". سأحاول عبر هذا المقال أن أضع فكرتي في الضوء عسى أن يزول الاستغراب بيننا.

شاعَ بين الناس مفهوم التاريخ بمعناه العادي، وبمعناه المُتداوَل في الحقول المعرفيّة كالسوسيولوجيا والفلسفة والأركيولوجيا والأنثربولوجيا، فضلاً عن التخصُّص العلمي المعروف باسم "التاريخ".

أغلب المفاهيم والتخصّصات العلميّة أَنتجها الغرب خلال القرنَيْن الأخيرَيْن. أمّا التاريخ فهو من المفاهيم القديمة التي عرفتها أغلب الأُمم منذ قرون، ومن ضمنها العرب، وعَرف منعطفاً نوعيّاً مع ابن خلدون منذ القرن الرّابع عشر. وتمّ إسناده إلى تخصّصاتٍ عدّة أو أُسنِدت إليه على غرار فلسفة التاريخ وإبيستيمولوجيا التاريخ وعِلم التاريخ والتاريخ السياسي والتاريخ الثقافي ...إلخ.


يبدو لي أنّ سيرورة التأريخ عبر العصور لم تتجاوز نطاق الذاكرة، بمعنى أنّ تسجيل الأحداث، منذ أن ظهر المؤرّخون، وحتّى الأبحاث الاستقصائيّة التي أَخذت على عاتقها تغطية المَسار البشري في بُعده الكَوني، بقيتْ محدودةَ النِّطاق زماناً ومكاناً، وأنّ ما تمّ تسجيله منذ قرون بقيَ ساري المفعول بحقائقه ومتخيّلاته حتّى زمننا المُعاصِر. وعلى الرّغم من المحاولات الجادّة التي أَخذت على عاتقها الخروج من "توثيق الذاكرات" إلى "تأريخ التاريخ"، فإنّ ذاكراتٍ بعيْنِها ظلَّت تُهيمِن بسحرِها وجبروتِها على حياة الناس، وعلى "التاريخ" والمؤرِّخين، لأسبابٍ موضوعيّة وأخرى أيديولوجيّة. وبالمُوازاة، برزَ فاعلون محليّون قرَّروا محو "الحاضر" بدعوى أنّه تسبَّب في طمْسِ "ماضيهم الحقيقي"، وخطَّطوا لإنشاء "ذاكرات محليّة جديدة" تستعيد الماضي على خلفيّاتٍ أيديولوجيّة عنصريّة. هكذا تجاهلَ هذا الصنف من الفاعلين "الحاضر" كمنتوجٍ تاريخي وتوهَّموا أنّهم قادرون على "إبادته" بضربة نَرد، من دون أن ينتبهوا إلى أنّ أقصى ما ستُنجزه نزعتُهم العنصريّة هو تعطيل مصالح شعوبهم وتشويه تمثّلاتها لحاضرها ولمستقبلها.

من هنا، بدأ البحث عن منهجٍ علمي يتخطّى نطاق "الذاكرة" إلى نطاق "التاريخ" بوصفه تاريخاً واحداً للأرض وساكنتها، تاريخاً واحداً لا شريك له، تتحلَّل في مجراه كلّ الحقائق التي انطوت عليها الذاكرات، بعد أن يعمل المؤرِّخ (العالِم) على تطهير ماء التاريخ من المحتويات الأسطوريّة والخياليّة للذاكرات كما هو حال تطهير ماء الشرب من الشوائب بالترشيح والفلْترة والتخثير. إنّ الغاية من التاريخ، هنا، ليس اكتشاف حقائق غابت عن البشر فحسب، بل الغاية التي لا جدوى من دونها هي إبطال المفعول التدميري للذاكرات المُهيمِنة، وحتّى مفعول الذاكرات التي تُخطِّط للهيْمَنة. إبطال مفعولها التدميري طبعاً؛ إذ ما الجدوى من اكتشاف الحقائق إذا لم تُسهِم في تحرير العالَم من باتولوجيا الذاكرات الجماعيّة، تلك الذاكرات المُمأسَسة أيديولوجيّاً والمنظَّمة حركيّاً؟

من هنا تنتفي المسافة بين الجدوى والمعنى، ويندغم البُعدان في بُعدٍ واحد، ولن يبقى التاريخ استطراداً حرفة المؤرِّخ بمفرده، ولا مهمّة الفيلسوف بمفرده، بل بات مهمّة علميّة أيضاً. ومن حيث إنّ التاريخ موضوع استهلاك كلّ الفئات والمؤسّسات، وُجب أن يُصبح موضوعَ توليدِ وإعادة توليدِ كلّ الحقول العلميّة ذات الصلة، وموضوع فحْصها وتحليلها.

دخلَ المفهومان (التاريخ والذاكرة) مدرسة الحوليّات الفرنسيّة في منتصف القرن العشرين، وتكثَّف الاشتغال عليهما في سياق تطوُّر العلوم الإنسانيّة والاجتماعيّة. وتلتقي كلّ التعريفات على أنّ الذاكرة الجماعيّة تَستجمِع التمثّلات التي تتقاسمها المجموعةُ بينها حول ماضيها. وإنّ عبارة "الذاكرة الجماعيّة" تتكوَّن (مجازاً على الأقلّ) من إسناد مَلَكَة سيكولوجيّة فرديّة إلى مجموعة، مثل عائلة أو أمّة. الذاكرة الجماعيّة، بحسب بيار نورا، هي "مجموع الذكريات، سواء كانت واعية أم لاواعية، لتجربة عاشتها و/ أو عملت على أسْطَرَتِها، هُوِيّاتيّاً، جماعةٌ منظَّمة حيث يكون الشعور جزءاً لا يتجزّأ من الماضي".

بالنسبة إلى موريس هالبواكس: "يبدأ التاريخ فقط عند النقطة التي ينتهي فيها التقليد، في اللّحظة التي تنطفئ أو تتحلَّل فيها الذاكرة الاجتماعيّة". في التنمية المستمرّة للذاكرة الجماعيّة، لا توجد خطوطٌ فاصلة مرسومة بشكلٍ واضح، كما في التاريخ. وإذا كانت الذاكرة تتّصف بالتعدُّد، فإنّ التاريخ يتميّز بالتفرُّد، والآحاديّة: "التاريخ واحد ويُمكن القول ليس هناك سوى تاريخ بشري واحد". التاريخ، وفق هذه البراديغما، مكانٌ للموضوعيّة المُطلَقة، ومكانٌ لا تكون فيه الذّات المؤرِّخة ضالعة.

الماضي هو الزمن المُشترَك بين التاريخ والذاكرة، كلاهما يحاول تَملّكَهُ والتخلُّص منه في آن. المشكلة تتعاظم كلّما اختلَّت العلاقة بالماضي والتبست، هنا يتدخَّل التحليلُ النفسي ويَمنح مكانةً خاصّة للذاكرة. الذاكرة المتأزّمة لدى الأفراد ذات صلة بذاكرة الجماعات. والاستشفاء يقوم على استرجاع تلك الذكريات، ترويضها وتدجينها، إفراغها من طاقتها التدميريّة وإبطال انفجارها. التاريخ من هذا المنظور مدخل إلى الاستشفاء من حيث هو مكان تنحلّ فيه الذاكرات.

ولتهميش هذه الذكريات المريرة يجب التعامل معها من منطلقٍ واقعي (تاريخي)، والحقّ في النسيان مثل واجب التذكُّر حاجةٌ وضرورةٌ تستلزم عمل التذكُّر، وذلك حتّى لا يصبح الماضي وِزراً، أو مَطيّة للابتزاز واستثمار الآلام من أجل تحقيق الامتيازات كما يقول العالِم النفسي الأميركي ستانلي شاشتر Stanley Schachter (1922 - 1997).

ويؤكد ستانلي على أنّ عُطل الذاكرة يتمظهر في سبعة تجاوزات أساسيّة أو خطايا: ثلاثة توصف بأنّها خطايا اللّامبالاة، بسبب الفشل في استعادة فكرة أو حقيقة أو حدث. والتجاوزات الأربعة الأخرى (سوء الإسناد، الإيحاء، التحيّز والاستمرار) هي خطايا ارتكاب. معنى ذلك أنّ هناك جزءاً من الذاكرة موجود، ولكنّه غير قابل للتصديق أو أنّه ليس الواقع أو الحدث أو الفكرة المرغوبة. من هنا وُجبت القطيعة بين التاريخ والذاكرة.

طقسٌ إيديولوجيٌّ سحريٌّ

ما هي القطيعة التي يجب أن تَحدث بين التاريخ والذاكرة؟ وما هو العائق الذي يعيق انتقال الذّات من الذاكرة إلى التاريخ؟ هل العائق إبيستيمولوجي أم سيكولوجي؟ أم الاثنان معاً؟ يبقى الاختلاف بين الذاكرة والتاريخ اختلافاً في البراديغما. ولأنّ الماضي هو الزّمن المُشترَك بين التاريخ والذاكرة، فالفَرق يكمن في "التمثُّل". التمثّل في اللّسان الفرنسي والإنكليزي (ريبريزنتايشن représentation) يعني استحضار الماضي وإعادة بناء الماضي ذهنيّاً. في اللّسان العربي، أنْ نتمثّلَ الماضي معناه أن نَبني على المستوى الذهني "مثالاً" للماضي.

التعارُض بين التاريخ والذاكرة لا ينفي جدوى الربط بينهما، والتمييز بين هذَيْن المفهومَيْن يقتضي التفكير فيهما معاً، وفق المؤرِّخ والفيلسوف الفرنسي فرانسوا دوس، لأنّ ثمّة قيمة جدليّة تنتسجُ بينهما وتتيح للتاريخ الاجتماعي للذاكرة إمكانيّة الانفتاح على مجالٍ خصب. ثمّة تكاملٌ حقيقي بين هذَيْن البُعدَيْن على الرّغم من صراعهما الذي يحدث أن يتولّد عنه توتّر بديهي يقدّمهما بوصفهما قطبَيْن محصورَيْن في أحدهما أو في الآخر، وهذا التكامل يتوجّب طرْحه. ما مصير الحقيقة بلا وفاء والوفاء بلا حقيقة؟ يتساءل ريكور. بين قطب التاريخ المتطلِّع إلى الحقيقة وقطب الذاكرة الذي يتغذّى من الوفاء، وجرّاء الجَدَل حول الاختيار بينهما، نجمَ مأزقٌ مزيّف، تحوَّلَ اليوم، في أزمنة الانقلاب الهيسطوغرافي، إلى روابط يغذّيها ائتمان متعدّد في مواجهة حقيقة تعبّر عنها أعمال التاريخ الاجتماعي الجديد للذاكرة، كما بيَّن ذلك المؤرِّخ هنري روسّو بشأن التاريخ. الذاكرة الجماعيّة، والتي تستعيد الماضي، تتذكّره وتعيش الذكرى في طقسٍ أيديولوجي سحري يَستدعي المكبوت الذي لا تكون عودته سوى مضاعفة للحالة الباتولوجيّة في الذاكرة، وهي ذاكرة الماضي الذي لا يريد أن يمضي.

موقف المؤرِّخ يجب أن يكون في منأىً عن أيّ حُكم معياري وبعيداً عن أيّ ارتباط بالذاكرة. وقد ألحَّ مفكّرون عديدون، من ضمنهم فرانسوا دوس، أنّه لا يُمكن تجميع كلّ الأحداث الماضية في لوحٍ واحد إلّا بشرط فصلها عن ذاكرة الجماعات التي احتفظت بالذكرى، وأنّ هذا العمل القائم على القطع هو ما يَمنح بالتالي المُنجَزَ التاريخي خصوصيّته، منفصلاً عن سياقه، حتّى يتّخذ بشكلٍ أفضل موقف الإحاطة باسم كفاءة المنهج العلمي في التجريد، ويَستخدم مشغّليه الخاصّين به، مُنفصلين عن أيّ مسعىً هويّاتي. هذه القطيعة بين التاريخ والذاكرة هي نتيجة للتحوّلات المتعدّدة في سيرورات الانتقال بين الأجيال.

إنّ العلاقات بين التاريخ والذاكرة كتملُّكٍ للماضي وفق باتريك ميشال نويل، العلاقات التكامليّة منها والتنابذيّة على حدّ سواء، هي مسألة إبيستيمولوجيّة تقع في قلب التخصُّص التاريخي. إذا لم يكُن السؤال جديداً، فقد اكتسبَ أهميّة جديدة على مدى الأعوام العشرين الماضية تحت زَخَمِ ما أَطلق عليه المؤرِّخون: بيار نورا وفرانسوا هارتوغ وألان ميغيل على التوالي "اللّحظة المتعلّقة بالذاكرة" و"طفويّة الذاكرة" و"هيجان الذاكرة". تتميَّز هذه الظاهرة وعلى نحوٍ أساسي باقتحام الذاكرة لمُختلف مجالات المُجتمع، ما يولِّد "إحياء حادّاً" للذكرى، وإضفاءً مُفرِطاً للمظهر التراثي على الماضي، ولاسيّما نداء واجب الذاكرة حين يُعرِّض المُشغّلين النقديّين لعمل المؤرِّخ إلى تماسٍّ كهربائي. تُحاول الذاكرة الاستيلاء، ضدّ التاريخ، على كامل الفضاء الذي يمثّل الماضي: فهي تَضع نفسَها أمام التاريخ كنمطٍ في تدبير الماضي. لقد ولّد هذا التحدّي الحقيقي للذاكرة أدبيّاتٍ مهمّة، بخاصّة بين المؤرِّخين والفلاسفة، حول طبيعة العلاقة بين التاريخ والذاكرة.

والتاريخ، في اختصار، هو توثيق أحداث الماضي. والتأريخ هو دراسة التطوّرات الماضية في طريقة كتابة التاريخ، ومُعالَجة تطوُّر الموضوع ومَصادر المؤرِّخ ومناهجه.

بمعناه العامّ التاريخ إذن هو سِجلّ الأحداث الماضية، تأرخة لعصرٍ من العصور أو سيرة شعب. وبالتالي فالمقصود بالتاريخ هنا هو "ذاكرة" ذلك العصر أو ذلك الشعب. بينما "التاريخ" له معنى آخر يختلف عن "الذاكرة". لقد حاولَ العقل البشري أن يَستوعبَ التاريخ في معناه الكوني، من منطلقات: أسطوريّة وميتافيزيقيّة وعلميّة. وحالما يَنجح العقلُ البشري في هذا المسعى، عندها فقط يكون التاريخُ قد أَعلن عن بدايته. لهذا السبب رأينا أنّ التاريخ لم يَبدأ بعد؛ وأنّ التاريخ الذي رأى فوكوياما أنّه انتهى هو مجرّد "ذاكرة" اتّسعت من دون أن ترتقي إلى تاريخ.

خلاصة القول، لا تكمن المشكلة بين الذاكرة والتاريخ، بل هي بين الذاكرات المُتطاحنة. ذلك أنّ التعارُض بين التاريخ والذاكرة لا ينفي جدوى الربط بينهما، بينما التعارُض بين الذاكرات نفسها ينفي أيّ مسعىً للربط بينها إلّا برعايةٍ من التاريخ البشري، من حيث إنّ التاريخ واحدٌ بينما الذاكرات مُتعدّدة ومُتناقضة.

*شاعر وباحث من الجزائر

* ينشر بالتزامن مع دورية أفق الإلكترونية.