لقد أثبت البحث في حضارة قلب الجزيرة، وفي الأدب الجاهلي، وفي الشعر العربي، وفي اللغة وخطوطها، وفي الأديان وقصص الأنبياء، وفي الملاحة العربية ونصيب السواحل القريبة منها: أن سكان المناطق المتوسطة من الجزيرة العربية كانوا مع الطليعة التي أسست الحياة الإنسانية ومهدت السبيل في البر وفي البحر للحضارة العربية.

ففي وادي القرى وسواحل البحر الأحمر، وفي اليمامة وسواحل الخليج العربي، عاشت شعوب: عاد وثمود، والعماليق، والدادانيون، والمدينيون، والكنعانيون وطسم وجديس، وغيرها من الأمم الغابرة، وكل هذه الأمم اعتبرت من الأمم البائدة. ومن هذه الأمم أمم يرجع تاريخها في قلب الجزيرة العربية إلى ما قبل الألف الثالثة قبل الميلاد مثل: الكنعانيين الذين عاشوا في اليمامة وعلى شواطئ الخليج العربي قبل هجرتهم إلى سوريا، ومثل: الشعوب الأرمية والعمليقية التي عاشت في وادي القرى وفي مكة والمدينة قبل أن يهاجر إبراهيم إلى سوريا، ويرفع قواعد البيت الحرام في الحجاز، ولكل من هذه الأمم آثار كشف التنقيب عن بعضها في اليمامة وفي وادي القرى ولا يزال بعضها دفينا في جوف الصحراء الصامتة.


ونحن إذا تمسكنا بالأدلة التي تؤكد أن الوطن الأول للجنس السامي العربي قلب الجزيرة العربية، وأن العرب الذين عاشوا في نجد والحجاز منذ العصر الحجري كانوا أساتذة سكان الواديين: النيل والفرات في استئناس الحيوانات واستنبات الحبوب، وأن العرب الذين أسسوا الدول الأرامية والعمليقية في العراق وفي سوريا، وفي مصر، كانوا أصحاب حضارة ولغة وعقائد بدليل الحضارة العربية في العراق التي تغلبت على الحضارة السومورية، وبدليل الحضارة العربية في مصر التي تبدو واضحة في لغة الفراعنة وفي آثار دلتا النيل وصحراء سيناء، ونحن إذا تمسكنا بهذه الأدلة لا نكون خياليين إن قلنا: إن ماضي العرب القديم لم يكن مظلما كما صوره الكثير من المؤرخين.

إننا لا نكون مبالغين إذا قلنا إن للعرب في داخل جزيرتهم تاريخا لا يقل توغله في أعماق الماضي عن توغل تاريخ السومريين في العراق، فمن الحقائق التاريخية: أن السومريين في العراق كانوا يستوردون النحاس من عمان. وعصر السومريين في العراق انتهى قبل الألف الثانية قبل الميلاد. ومن الحقائق التاريخية: أن (سرجون) الذي أسس الدولة العربية في العراق ووصل سلطانه إلى سوريا ولبنان، لم تخضع لسلطانه الدول العربية في سواحل الخليج العربي، وفي اليمامة، فكانت تلك الحروب التي أشارت إليها آثار (سرجون).

واعتمادًا على هذه الحقائق نقول غير مبالغين: إن العرب الذين عرفوا كيف يستفيدون من معادن الأرض، وعرفوا كيف يكونون جيوشا تؤسس دولاً عربية في العراق، وفي سوريا، وفي مصر تبسط نفوذها وحضارتها ولغتها على العناصر التي أتت من شمال العراق ومن جنوب مصر وغربها لتشاركهم في أوطانهم وتقاسمهم، لا بد أن يكون لهم تاريخ حافل بالأحداث التي تمر بكل أمة أقامت مدنية خيراتها، وأنشأت أدبا ونظمت جيشا يغزو ويفتح.

وهذه الحقائق لم يختلف عليها الذين بحثوا في التاريخ العربي القديم، وإنما الذي هم فيه مختلفون هو: تحديد زمن الأحداث وعصور الأنبياء والملوك. وإن الذي أعجزهم هو: معرفة المدى الذي بلغته الحضارة العربية في قرونها الأولى. ولقد مرت بنا في بحث دول ما قبل التاريخ وسني حكمها: أسباب الخلاف بين المؤرخين الذين حددوا السنين لدول ما قبل التاريخ. ولسوف تأتي في البحث عن عناصر الجزيرة العربية وقبائلها: بواعث الخلاف بين النسابين في تعيين القبائل وتحقيق أرومتها، وكيف ورط تشابه الأسماء التي ظهرت في بلد واحد بعض النسابين فخلط بين القبائل؟ وكيف غلط البعض الآخر فنسب قبيلة واحدة مرة إلى سام، ومرة إلى حام، ومرة إلى يافث، الأصول الثلاثة لشعوب الجزيرة العربية في بحوث الأنساب؟!

والخلاف في عصور الأنبياء والدول ما زال موجودًا في البحوث التاريخية حتى اليوم فزمن (سرجون) و (حمورابي) و (إبراهيم عليه السلام)، ودولة العماليق في مصر، يختلف فيه المطران الدبس في تاريخ سوريا وجرجي زيدان في (العرب قبل الإسلام) وفيليب حتي في تاريخه: العرب، وسوريا ولبنان في التاريخ، ونادفي في التاريخ الجغرافي للقرآن، والبتنوني في الرحلة الحجازية، والعقاد في الثقافة العربية ، وجواد علي في تاريخ العرب قبل الإسلام !

1963*

*مؤرخ وباحث وصحافي سعودي «1909 - 1984».